أخر المستجدات
العائلة الأنصارية فى مدينة بنارس (الهند)

العائلة الأنصارية فى مدينة بنارس (الهند)

العائلة الأنصارية فى مدينة بنارس (الهند)

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا،وجعلناشعوبا وقبائل للتعارف دون التفاخر و صلى الله على سيدنا محمد خير البشر الذى قال أنا سيد ولد آدم و لا فخر و على آله و صحبه إلى يوم النشر.

أما بعد:

فإن الله تعالى خلق الجنس البشري كله من ذكر وأنثى وهما آدم وحواء ثم جعل هذه الذرية العظيمة التي لا يحصي عددها شعوباً وقبائل ليتمايز بعضهم عن بعض، فيحصل لهم التعارف فيما بينهم وبهذا التعارف يمكنهم القيام بالحقوق التي عليهم، واستيفاء الحقوق التي لهم مما جعل الشارع مبناه على قرب العلاقات وبعدها، أو على نوعها وصفتها، كالبر وصلة الرحم والنفقات والمواريث والديات وغير ذلك.

فما جعلت الأنساب للتفاخر إنما جعلت للتعارف، وإلا فالأنساب كلها مردها إلى أصل واحد وهو آدم، وآدم من تراب وفي ذلك يقول تعالى:(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)([1])

فالتقوى مدار الكرامة عند الله و به تحلى أهله من عباده من الأنبياء و الرسل و أصحابهم و أعوانهم، لكل نبي أصحابه الذين وصفوا بالتقوى و الصلاح و بما ان الله فضل بعض الأنبياء على بعض، كذلك فضل أصحاب بعضهم على بعض، و سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء و الرسل فلصحابته أفضلية بل هم أفضل البشر بعد الأنبياء، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)([2]) فُسِّرَ لفظ الأمة فى الآية بأن المراد به الصحابة فهو عام مخصوص. و الصحابة كلهم عدول قاموا بنصرة نبيهم و أحسنوا إليه، من بينهم بعض القبائل تلبت بدعوة نبي الله الأعظم و قدم له أفرادها بيوتهم و أراضيهم و أموالهم حتى حياتهم، و داروا معه حيث دار و توجهوا معه اينما توجه للجهاد فى سبيل الله،كما قال أحدهم فى غزوة بدر:وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا ، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا !([3])

ألا و هي قبائل الأوس و الخزرج و القائل سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه، هاتان القبيلتان لهما جلالة و كرامة و فضل عظيم بسبب إيثارهم و خدمتهم و نصرتهم و حبهم لله و لرسوله صلى الله عليه و سلم، فمدحهما الله تعالى فى محكم تنزيله و سماهما الأنصار، و جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبَهم آية الإيمان و بغضهم آية النفاق، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم “آية الإيمان حب الأنصار، و آية النفاق بغض الأنصار“([4]) متفق  عليه، فللأنصار دور كبير بارز فى خدمة دين الرحمن و نشره، ودرّبوا ذريتهم على هذه الخصلة توارثها جيل عن جيل، حيثما داروا و أقاموا قاموا بالدعوة إلى سبيل الرحمن الرحيم و إعلاء كلمة الحق المبين، كم من أنصاري غادر و هاجر مدينة الرسول المحروسة المودودة الغالية على قلبه من أجل الدعوة إلى دين الله، منهم من نزل بالعراق منهم من أقام باليمن منهم من توجه إلى أقصى بلاد أفريقيا منهم من قطع المسافة الى شبه القارة الهندية منهم من غزى القسطنطينية، فالأنصار جالوا جل أنحاء العالم و فروعهم انتشروا فى كل أصقاع المعمورة.

و نحن بصدد ذكر فرع من فروع الأنصار الذى اختفتمعرفته على معظم أبناء أعمامنا الأنصار و أرفع شكري و احترامي إلى ابن عمنا أخينا الفاضل الأستاد محمد بن عند الله الأنصاري الرئيس المؤسس لرابطة الأنصار العالمية بأنه تواصل معى و أراد أن أختصر له عن تاريخ العائلة الأنصارية فى مدينة “بَنَارَس” و هى من أقدم المدن الهندية بل يزعم الهندوس بأنها أقدم المدن فى العالم !

قبل ان نخوض فى تاريخ العائلة الأنصارية فى مدينة بنارس، ينبغى ان نتطرق إلى معرفة البيئة و الأحوال قبل الإسلام فىيها، لأنها تقرب الى ذهن القارئ لماذا قصدها و اهتم بها الحكام و أهل العلم إهتماما خاصا.

من لديه أدنى معرفة بتاريخ الفلسفة يعلم أن الفلسفة القديمة لها عدة مراكز فى العالم، من أشهرها اليونان، و الصين، و الهند، و اذا اشتهر بلد بشىء من العلم و التفنن لا يعني أن البلد كله يمثل ذلك، بل هناك بعض الأماكن أو المدن تجعل البلد مشتهرا بذاك الفن، على سبيل المثال، اليونان اشتهرت فلسفته من أجل بعض مدنه من أهمها “الميلاس” تنتمى اليه المدرسة الفلسفية الميليسية،كذلك الهند لها عدة مدن لشهرة فلسفتها و علومها، من أهمها “كَشمِير” و “بَنَارَس” كما أشار إليه أبو الريحان البيروني([5]).

و كلنا نعرف ان هذه البلاد الفلسفية سواء اليونان او الصين او الهند مع كل هذا التطور الفلسفي كانوا أبعد الناس بمعرفة إلَههم و أقرب الناس إلى الشرك مع الإله الحقيقي، ومدينة بنارس على رأسها فى الشرك و الضلال!

هذا ما أدى إلى إهتمام الحكام المسلمين و أهل العلم و المعرفة بها إهتماما خاصا،قيل إنما فُتِحَت هذه المدينة على يدي القائد أحمد نيالتكين مع جيش السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوى فى  القرن الخامس من الهجرة، و منذ تلك الفترة أخذ أهل العلم و المعرفة و التزكية يفدون إلى هذه المدينة من داخل الهند و خارجها من أجل الدعوة إلى توحيد الله و المجادلة مع صناديد أهل الشرك و عبدة الأوثان بالتى هى أحسن، سرعان ما بلغوا رسالة نبوية و اعتنقت كثرة كاثرة من النسمة الهندوسيةالدينَ الحنيف،  فالأرض المشركة التى لم يكن يذكر فيها اسم الله،أصبح فيها الموحدون المخلصون لوجه الله الأحد الصمد يذكرونه ذكرا كثيرا و يسبحونه بكرة و أصيلا،

و من الأعلام الكبار الذين توجهوا إلى مدينة بنارس، المجاهد الغازى العظيم سالار مسعود بن ساهو بن عطاء الله العلوى فى مستهل القرن الخامس الهجري،كان من نسل محمد بن الحنفية، يقول ابن بطوطة الرحالة المغربي عنه فى كتابه: إنمحمد شاه تغلق سارلزيارة الشيخ الصالح البطل سالار مسعود الذي فتح أكثر تلك البلاد، وله أخبار عجيبةوغزوات شهيرة، وتكاثر الناس، وزرنا قبر الصالح المذكور وهو في قبة لم نجد سبيلاً إلىدخولها لكثرة الزحام!

لما تشرفت الهند بقدوم سيدنا الشيخ العارف بالله العالم الرباني صاحب الكرامات الباهرة معين الدين الحسن الحسينيالحسني الجشتى([6]) رحمه الله رحمة واسعة، هو أشهر أهل المعرفة و التصوف فى شبه القارة الهندية اعتنق الإسلام على يديه الشريفتين آلاف من المشركين، جعل عدة مدن الهند مراكز للدعوة و الإرشاد و من خلال تلك المراكز مدينة بنارس، و على ممر القرون أصبحت المناطق الشمالية من الهند عاصمة العلوم الشرعية و الزوايا السلوكية يحج اليها جم غفير من العلماء و الشعراء و الزهاد حتى قيل إن الملك شاه جهان صاحب العمارة العريقة الجذابة المشهورة “التاج محل” قال عن هذه المناطق و فيها مدينة بنارس أنها “شيراز الهند”.

و من الولاة الذين تولوا ولاية مدينة بنارس من قِبل سلاطين الهند بعضهم اشتهروا بالزهد و التقوى و الصلاح، ومن هولاء الولاة الزهاد، الشاه محمد إدريس المعروف بحاجى دَرَّس دفن بنفس المدينة و قبره معروف يُزار، طلب أحد أعظم صناع النسيج اليدوي من سمرقند الشيخ علي إبراهيم الأنصاري السمرقندى سنة 698هـ فجاء الشيخ من سمرقند مرورا بكندهار و كشمير الى بنارس و نفخ فى فن النسيج روحا جديدة و أضاف إليه إبداعات لم يسبقه اليها إحد، و بما أنه كان شخصية علمية زاهدة متدينة قام بالمساهمات الدينية و العلمية فى المنطقة.

و نسباكان الشيخ علي إبراهيم السمرقندى أيوبيا أنصاريا و كان من ذرية شيخ الإسلام أبى إسماعيل الهروي([7]) رضي الله عنه صاحب “منازل السائرين” المشهور فى بلاد العجم بخواجه عبد الله الأنصارى و هو من ذرية الصحابي الجليل مضيف رسول الله صلى الله عليه و سلم أبى أيوب النجاري الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه و انتشرت فروع شيخ الإسلام الهروي فى عدة بلاد من أفغانستان و سمرقند و بخارا  و بنجاب من الولايات الهندية، و من الجدير بالذكر أن معظمهم يشتغلون بصناعة النسيج، و عُرِفُوا بلقب “خواجه”.

أما الشيخ علي إبراهيم الأنصاري السمرقندي هو من عائلة ذرية شيخ الإسلام الهروي الذين استوطنوا سمرقند، لما جاء الشيخ الى بنارس استوطنه و أعقب الشيخ السمرقندى ذريته فى بنارس و لم تزل ذريته تتفرع فيه، و هناك حي قديم مشهور فى بنارس المعروف باسم “مَدَنْفُورا” و هو من الأحياء التى يسكن فيها المسلمون على ممر القرون و العصور، و أهله يمتاز بتهذيبهم الخاص لهم وقار و احترام عند الناس لا يفضلون الزواج فى خارج حيهم و لو فى نفس المدينة! قيل إنما سبب امتيازهم عن غيرهم هذا هو أن كثيرا من العائلات فى هذه المنطقة أصولها عربية والله أعلم.

و أولاد الشيخ علي إبراهيم الأنصاري السمرقندي مكثوا فى هذا الحي، أصبحت لأولاده عائلات كثيرة، من أشهرها عائلة “هَتْيَه” عائلة موقرة مشهورة من أقدم السكان المسلمين ببنارس و الفقير من هذه العائلة و الحمد لله.

أما شجرة نسبنا إلى الشيخ علي إبراهيم السمرقندي فهي موجودة إلا أنها توجد فيها بعض الأسقاط و لا استغراب فيها لأن العجم لا يهتمون بشجرات أنسابهم، بل كم من عربي سمعنا أنه لم يحفظ نسبه فما بالك من الأعاجم!

و عائلتنا امتازت بالتجارة و الصناعة و اكتفوا بصحبة العلماء و الصالحين مع ذلك حافظوا على ما حافظوا، و لله الحمد و المنة. و فى الهند عائلات أنصارية أخرى أيضا تنتمي إلى شيخ الإسلام الهروى منهاعائلة الفرنكي محل و هي عائلة مشهورة بالعلم و الزهد و التصوف منذ الزمن البعيد رغم ذلك لم تحفظ شجرتها من الكلام!

هذه بعض السطور سطرتها و فضلها يعود كليا إلى أخينا الكبير العالم الجليل عزيزي و أستادى الشيخ المفتى خواجه أحسن كمال الأيوبي الأنصاري حفظه الله و رعاه،إنه اجتهد جهدا كبيرا فى تحصيل معرفة تاريخ عائلتنا، طالع الأوراق الفارسية و الدفاتير ليخرج لنا بمعلومات صحيحة عن نسبنا، فله الشكر و التقدير، تقبل الله جهوده.

الله هو الموفق و المستعان و عليه التوكل فى البدء و الختام.

و صلى الله على سيدنا محمد و على آله الكرام

الكاتب:خواجه فهيم نواز الثقافىالأزهري الأيوبي الأنصاري.

تاريخ: 5/10/1442هـ الموافق 17/5/2021

المصادر والمراجع

([1])]الحجرات: 13[

([2])]آل عمران:110[

([3])صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر ح 1779

([4])رواه الشيخان فى صحيحيهما،

البخاري فىكتاب مناقب الأنصار ، باب حب الأنصار ، ح  3573

مسلم فى كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار و علي رضي الله عنهم من الإيمان ح 137

([5])أَبُو الرَّيْحَانِ مُحَمَّدٌ بْنُ أَحْمَدَ البِيرُونِيّ 440هـهو باحث مسلم  كان رحّآلةً وفيلسوفًا وفلكيًا وجغرافيًا وجيولوجيًا ورياضياتيًا وصيدليًا ومؤرخًا ومترجمًا. وصف بأنه من بين أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية، درس الفلسفة الهندية و ديانتهم لم يصنف فى تاريخ ديانة الهند مثل كتابه لا قبله و لا بعده.

([6])هو شيخ الشيوخ، سلطان العارفين، قدوة الواصلين، شيخ الإسلام، من ألقابه نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهند و سلطان الهند و عطاء الرسول، أشهرها غريب نواز (معطى الفقراء)، العارف باللهالزاهد، معين الملة والدين،الشيخ خواجه معين الدين الحسنالحسيني الحسني الجشتي السجزي ثم الأجميري – رحمه الله رحمةً واسعةً، أحد الأعلام النابهين من أهل السنة والجماعة، و أشهر رجال التصوف بالهند، تنتمي إليه الطريقة الجشتية فى شبه القارة الهندية.

([7])أبو إسماعيل الانصاري الهروي هو شيخ الإسلام الإمام القدوة الحافظ الكبير أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مت الأنصاري الهروي فقيه حنبلي رأس الصوفية فى بلاد خراسان مصنف كتاب منازل السائرين و طبقات الصوفية و ذم الكلام و غيرها من ذرية صاحب النبي أبي أيوب الأنصاري المتوفى 481 هـ

 

اضف رد