أخر المستجدات
الشيخ احمد السوركتي الانصاري اندونيسيا

الشيخ احمد السوركتي الانصاري اندونيسيا

نواصل تعريفنا بالمؤسسات والجمعيات الانصارية التي اسهمت بالشئ الكثير في نشر تعاليم ديننا الحنيف في مختلف الاقطار والامصار واليوم نحط الرحال باندونيسيا وقصة العالم السوداني الاندو نيسي الانصاري وسا فتتح بكلمة للرئيس الاندونيسي احمد سوكارنو فى مؤتمر عام 1951

” إن إندونيسيا لم ولن تنسى فضل الجمعيات التى ساعدت على إحياء النخوة والغيرة والوطنية والدينية التى عجلت بالثورة الكبرى والحصول على حريتنا كحزب شركة اسلام وجمعيتى الإرشاد والمحمدية الدينتين”

شخصيتنا العالم الشيخ احمد السوركتي السلمي الانصاري من احفاد الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الانصاري رضي الله عنه والذي تحدثت عن عائلته فيما مضى ضمن سلسلة تعاريفنا بالشخصيات الانصارية المؤثرة حيث ذكرت مختار السوركتي رئيس مجلس علماء اندونيسيا وعضو مجلس الشيوخ الاندونيسي اليكم قصة حياة للاستاذ والداعية

اترك الدكتور احمد ابراهيم ابو شوك عضو الهيئة الاستشارية لسردها

 

الشيخ أحمد محمد السوركتي (1876 ـ 1943)

رائد حركة الإصلاح والإرشاد العربية في إندونيسيا

 

مقدمة

شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من القرن العشرين بوادر صحوة إسلامية تنادي بالعودة إلى الكتاب والسنة وفتح باب الاجتهاد لتحقيق التوافق والانسجام بين النص الديني (الكتاب والسنة) والواقع الحياتي المعاش. وقد جاءت هذه الصحوة نتيجة لحركة تفاعل بين عوامل خارجية أفرزها الوجود الاستعماري الغربي في معظم بلدان العالم الإسلامي ودوافع ذاتية استمدت منهجها من تراث ابن حنبل (780 -855م)، وابن تيمية (1263 -1328م) الرافض للبدع والخرافات التي فرضتها رجاحة الموروث المحلي علي الكسب الفقهي المتبصر بمعتقدات وعبادات ومعاملات الأفراد والجماعات في إطار الشريعة الإسلامية. وقد حمل لواء هذه الحركة علماء أجلاء أمثال جمال الدين الأفغاني (1838 -1897م) ومحمد عبده (1849 -1905م)، ومحمد رشيد رضا (1865 -1935م). وبفضل إسهامات هؤلاء العلماء انداحت دائرة الصحوة لتشمل عددا من البلاد المسلمة التي تباينت درجات التأثر والعطاء فيها تبايناً طردياً مع معايير الاستعداد الفكري والقيم الثقافية والاجتماعية في كل قطر مسلم حداه.

يحاول هذا البحث أن يستعرض التأثير الثقافي والفكري الذي أحدثته هذه الصحوة في إندونيسيا وذلك بتركيز على الدور الذي لعبته حركة الإصلاح والإرشاد العربية التي أسسها الداعية أحمد السوركتي (1876 -1943م) في مدينة جاكرتا (بتافيا) عام 1914م. وتوطئة لهذا الموضوع يستحسن أن يكون مدخلنا بعرض موجز لتاريخ دخول الإسلام وانتشاره في إندونيسيا وذلك لكي نستوعب الظروف السياسية والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها حركة الإصلاح والإرشاد العربية، وتشكلت فيها برامجها الإصلاحية وصراعها الفكري والسياسي مع السادة العلويين الحضارمة الذين كانوا يمثلون الطبقة الدينية الأرستقراطية في ذلك المجتمع.

 

الإسلام والعرب في إندونيسيا

يصعب تحديد الزمن الذي تسرب فيه بواكير الدعوة الإسلامية إلى إندونيسيا، لذا فإن أراء الباحثين قد تباينت حول هذا الموضوع. إذ يفترض فريق منهم أن التجار العرب هم أول من بشر ودعا إلى عقيدة الإسلام في المنطقة الشمالية الغربية لجزيرة سومطرة وذلك في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي). وتستند حجية هؤلاء الباحثين إلى النفوذ التجاري العربي الذي أرسي قواعده في منطقة كوجرات الهندية قبل البعثة النبوية، ثم من كوجرات انطلقت بعض المجموعات العربية صوب إندونيسيا والفلبين والصين. وعندما ظهر الإسلام تحول معظم هؤلاء المستوطنين العرب إلى دعاة لنشر الإسلام في تلك الربوع وذلك لحماية مصالحهم التجارية من جهة وإبقاء عقيدتهم التي آمنوا بها من طرف ثان. ويوثق هؤلاء لرأيهم أيضا بوجود دليل اثري لشاهد قبر رجل مسلم توفى قرب جزيرة سومطرة ويرجع تاريخ وفاته إلى العقد السادس من القرن الأول الهجري.

ويميل الفريق الثاني الذي يتزعمه المستشرق الهولندي سنوك هورغرونيه (Snouck Hurgronje) إلى القول بأن الإسلام قد وصل إلى الجزر الإندونيسية في القرن الثالث عشر الميلادي وذلك بوساطة المسلمين الهنود الذين كانت لديهم معرفة قديمة بإندونيسيا. وتستند حجية هذا الرأي إلى انتشار المذهب الشافعي الذي يغلب الظن أنه قد جاء إلى إندونيسيا من سواحل كروماندل (Cromondal) وملابار (Malabar) في الهند، وإلي خصوصية الإسلام الشعبي الإندونيسي الذي تدثر ببعض الموروثات المحلية وأدبيات الصوفية التي لقيت رواجاً في شبه القارة الهندية.

أما الفريق الثالث من الباحثين فيزعم أن الإسلام قد دخل إلى إندونيسيا بوساطة التجار الإندونيسيين الذين كانت لهم علاقات تجارية مع منطقة الخليج العربي منذ القرن السابع الميلادي، ولهم أيضا مصالح متبادلة مع رصفائهم من التجار العرب والهنود والصينيين المسلمين. وبعد أن اعتنق هؤلاء التجار الإسلام قاموا ببث الدعوة الإسلامية بين أهليهم، وتدريجياً وثقوا صلاتهم بوجهاء الأسر الحاكمة، وعن طريق هذه الصفوة استطاعوا أن يؤسسوا عدداً من الممالك الإسلامية اذيعها صيتا مملكة برلاك (أو برلاق) في جزيرة سومطرة ، المملكة التي زراها الرحالة الإيطالي ماركو بولو (Marco Polo) عام 1292م، وكتب عنها قائلا “أن غالبية سكانها وثنيين، إلا الذين يقنطون المدن الساحلية فقد اتبعوا دين محمد، وذلك عن طريق التجار العرب الذين كانوا يخالطونهم باستمرار”.

لا شك أن هذه الفرضيات الثلاث تذخر برصيد من الحقائق التاريخية التي لا يمكن إنكارها، إلا أنها في واقع الحال حقائق تاريخية مختارة ونظرتها نظرة آحادية إلى تاريخ دخول الإسلام وانتشاره في إندونيسيا، لذا فلا يجوز لأي منها أن تدعي عصمة الزلل واحتكار صفة الحقيقة، لكنها إذا حللت تحليلا علمياً يمكنها أن تعطينا صورة واضحة لواقع تسرب الدعوة الإسلامية إلى إندونيسيا، ومعرفة العناصر التي أسهمت في توسيع دائرة المد الإسلامي، ثم استيعاب المنهج الدعوى (أو التبشيري) الذي جعل الإندونيسيين يدخلون في دين الله أفواجاً.

وتفادياُ للخلط الذي وقعت فيه هذه الفرضيات ينبغي أن نفرق بين “دخول” الإسلام وعملية “انتشاره” في إندونيسيا من حيث المضمون والمعنى، لأن دخول الإسلام يغلب الظن أنه قد حدث في القرن الأول الهجري وذلك بوساطة التجار العرب الذين كانت لديهم علاقات وثيقة مع سيلان والصين والهند وسواحل سومطرة الشمالية (آشية)، وبعد أن اعتنق هؤلاء التجار الإسلام أضحوا يمثلون أقليات مسلمة تعيش في سواحل المدن التجارية لهذه البلدان وتبشر بظهور دين جديد.

أما عملية انتشار الإسلام فقد جاءت عبر مراحل متعاقبة ومتداخلة اسهم فيها عدد من التجار العرب والهنود والإندونيسيين والعناصر المولدة التي نشأت نتيجة لعلاقات التصاهر بين هذه القوميات. وتتجسد الحلقة الأولى من حلقات انتشار الإسلام في استقرار عدد من التجار العرب والهنود في موانئ إندونيسيا الساحلية في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ثم بعد ذلك ظهر نوع من العلاقات الودية التي فرضتها طبيعة المعاملات التجارية القائمة على نظام المقايضة بين التجار الوافدين والسكان المحليين، وتدريجياً يسرت هذه العلاقات السبل لقيام روابط مصاهرة من خلالها استطاع التجار الوافدون أن يتأقلموا مع المجتمع المحلي ويسهموا في بث الدعوة الإسلامية. بيد أن عطاء التجار المسلمين في هذه المرحلة كان عطاءاً محدوداً واستجابة المجتمع إليهم كانت محصورة في إطار هذه العلائق التجارية الاجتماعية.

وبمجئ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) انداحت دائرة الدعوة الإسلامية في أوساط القطاعات غير المسلمة، والسبب في ذلك يعزي إلى إغلاق ميناء كانتون (Canton) في الصين في وجه التجار الأجانب وتحول طرق التجارة البحرية إلى موانئ أرخبيل، وعلى وجه التحديد إلى ميناء ملقا الذي أضحى مركزاً تجارياً هاماً بالنسبة للسفن القادمة من الخليج العربي وجنوب الجزيرة العربية والعائدة إليهما. ولازم هذه النقلة ـ كما أشرنا من قبل ـ انتعاش في حركة التجارة الإندونيسية، وبفضل ذلك اتسعت دائرة العلائق الاجتماعية وامتد نفوذ الدعوة الإسلامية وسط الأهليين الذين كانوا يمثلون جزءا من نسيج هذه الحركة التجارية النشطة.

أما الحلقة الوسطى فقد تبلورت في الدعوة المنظمة التي قام بها دعاة ينحدرون من أصلاب عربية ويعرفون محلياً بالأولياء التسعة. وبفضل نشاط هؤلاء الأولياء (سنون أوليا) وجد الإسلام قبولاً واسعاً وسط الإندونيسيين الذين عرض عليهم في ثوب صوفي متصالح مع عاداتهم وتقاليدهم الموروثة. وتقديراً لهذا الجهد أضحى هؤلاء الأولياء موطن تقديس وتجلة في نظر الأهليين، الذين أمسوا يقدمون لهم الهدايا والنذور عرفانا لمقاماتهم الدينية ورغبة في شفاعتهم الأخروية وتوسلهم الدنيوي. ولازم هذه الطفرة النوعية اهتمام بدور المساجد والمعاهد الدينية الإندونيسية في بث الدعوة الإسلامية وتدريس علوم القرآن والحديث والفقه، ووثقت أيضا علاقة بلاد الأرخبيل بمدينتي مكة والمدينة والأزهر الشريف بالقاهرة، حيث أنشئت أروقة لطلاب العلم الإندونيسيين، الذين هاجروا إلى تلك البقاع وارتشفوا العلم من مناهله الأصلية وعادوا إلى بلادهم دعاة مؤهلين ومبشرين لدين الإسلام.

ثم توجت هذه المرحلة باعتناق عدد من الأمراء والنبلاء الإندونيسيين لعقيدة الإسلام وذلك لإرتباط نفوذهم السيادي بالحركة التجارية “العالمية” التي سيطر على مقاليدها العرب المسلمون، إضافة إلى دوافعهم السياسية المتمثلة في التخلص من سيطرة مملكة المجافاهيت الهندوكية (1293-1389) التي بدأ نجمها السياسي يأفل في ظل تصاعد المد الإسلامي في الجزر الإندونيسية. وبهذه النقلة النوعية وجد الإسلام طريقه إلى البلاط الإندونيسي واضحي يمثل عقيدة الصفوة الحاكمة التي لا شك أنها قد أثرت في دفع مسار الدعوة الإسلامية في أوساط الرعية وفي أوساط الحكام الذين كانت تربطهم بها أحلاف سياسية ومنافع تجارية مشتركة ومتبادلة.

وبهذه الكيفية ـ كما يرى المستشرق الهولندي سنوك هور غرونيه ـ أن الإسلام قد دخل أرخبيل الشرق الأقصى [وانتشر فيه]… ولم يدخل بحد السيف كما كان الأمر في البلاد التي ظهر فيها أولاً. ففي الشق الأقصى لم يشعر الناس أن الدين مفروض عليهم من سلطة عليا، كلا، بل كان حقائق تكشفت لهم، حملها الغرباء عبر البحر، وما أن اقتنعوا بها واعتنقوها حتى اصبحوا يشعرون أنهم جزء من حضارة سامية حملتهم إلى مستوى رفيع بين أمم العالم”.

 

الحضارمة في إندونيسيا

يذكر شيخ الربوة الدمشقي (ت 1327م) أن السادة العلويين كانوا في مقدمة التجار والدعاة المسلمين الذين حطوا رحالهم بأراضي الأرخبيل، وحسب زعمه أن طلائعهم الأولى وصلت إلى “بلاد الصنف” في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان (644-656م).

ويبدو أن الدمشقي يقصد بالسادة العلويين رهط من أحفاد علي بن أبي طالب على سبيل الإطلاق. أما هجرة السادة العلويين الحضارمة ومن صحبهم من أبناء حضرموت إلى إندونيسيا فقد بدأت في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وبلغت ذروتها في الربع الأول من القرن العشرين للميلاد وذلك على ضوء إحصاءات الحكومة الهولندية التي استعرضها السيد إسماعيل العطاس في كلمته التي ألقاها في الاحتفال باليوبيل الفضي لتنصيب ملكة هولندا عام 1925م.

التاريخ جاوة ومدورا جزر أخرى المجموع

1859 4992 غير معلوم …

1870 7495 غير معلوم …

1884 10888 غير معلوم …

1905 19148 10440 39500

1920 27806 17115 44921

 

ويقصد في هذا الحديث بالسادة العلويين الحضارمة آل علوي بن عبيد الله بن الإمام المهاجر الذين يرفعون نسبهم إلى سبط الرسول صلى الله عليه وسلم، الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهم مجموعة أسر ذائعو الشهرة العلمية والسياسية والاجتماعية في اليمن والهند وجنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا، وفيهم صفوة من الأفذاذ الذين خدموا العلم والمجتمعات التي اندمجوا في شؤونها الحياتية. وبفضل خصوصية انتسابهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحوا يمثلون طبقة دينية أرستقراطية في حضرموت والهند وجنوب شرق آسيا وشرق إفريقيا، وأضحى لهم مقاماً محموداً يسمو على مقامات الأولياء والصالحين والحكام، حيث تقبل أيديهم عند المصافحة، وتقدم الهدايا إلى أحيائهم، وتنصب القباب على قبور مواتهم، وتنذر إليهم النذور بغية الشفاعة الأخروية والتوسل في قضاء الحاجيات الدنيوية. وتقديساُ لهذا الانتساب يحرم زواج حرائرهم لغير العلويين بحجة عدم توفر الكفاءة النسبية وصيانة الدم الشريف. وداخل هذا الإطار الصفوي ينقسم آل باعلوي أنفسهم إلى طبقتين، تتصدرهما طبقة العلويين المناصب من آل الشيخ أبي بكر وآل العطاس وآل العيدروس وآل الحبشي، وتليها طبقة العلويين غير المناصب من آل السقاف وآل الجفري وآل الكاف وآل الحداد وآل بلفقيه.

هكذا تشكلت قمة الهرم الاجتماعي للجالية الحضرمية في إندونيسيا كما كان عليه الحال في سائر البلدان التي يقطنها الحضارمة، أما بقية المهاجرين فقد تدرجت مراتبهم بين أسرتي آل يافع وآل كثير وبين المستضعفين الذين ينتمون إلى أصحاب المهن والحرف الهامشية. ومن خلال هذا الهيكل الطبقي استطاع السادة العلويون أن يصون نفوذهم الروحي وجاههم الاجتماعي، ويرفضوا فكرة المساواة الشرعية، ويترفعوا عن بقية الشعوب الإسلامية بحجة سمو كفاءتهم النسبية وانتمائهم الذاتي لا الصفات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ويتجلى هذا التوجه في معارضتهم الصريحة للزواج الذي حدث في سنغافورة عام 1905م بين شاب هندي مسلم وفتاة علوية شريفة، وقد دفعت هذه المعارضة أحد شباب العلويين إلى استفتاء السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار، عن صحة هذا الزواج شرعا، فأفتى السيد رضا بصحته. ولا غرو أن هذه الفتوى قد أحدثت رد فعل عنيف في أوساط السادة العلويين الحضارمة، ثم دفعت السيد عمر بن سالم العطاس إلى إصدار فتوى مضادة تقضي بتحريم زواج الشريفة العلوية بغير الشريف حتى لو رضيت الزوجة المعنية بالأمر ووافق وليها، وذلك استناداً إلى سمو كفاءتها الذاتية المرتبطة بانتمائها إلى أرومة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكما يرى الأستاذ عمر سليمان ناجي، فإن استفتاء الشيخ رشيد رضا قد كان يعبر عن انعكاس طبيعي لتزمر (المتنورين) من شباب السادة العلويين، الذين ظلوا ينتقدون صراحة سلوكيات قادتهم التقليديين ويدعون إلى التوحيد والإخاء والمساواة بعيدا عن الخرافات والبدع التي فرضتها رجاحة الموروث العلوي على ثوابت ومرتكزات الدين الإسلامي. وكان منشأ هذه الحركة في سنغافورة، حيث اشتهر قادتها حسن بن علوي بن شهاب الدين (1852 -1912) وأبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين (1946 -1922) ومحمد بن عقيل بن عمر آل يحي (1963 -1931). وقد عرف جميع هؤلاء بأبحاثهم الجريئة التي كانت تنشر في الصحف المصرية منادية بالإصلاح الاجتماعي والتعليمي، وحاطة من شأن البدع والخرافات التي كانت شائعة في أواسط سادتهم العلويين المناصب ومن شايعهم، وداعية العامة إلى إتباع تعاليم صاحب المنار محمد رشيد رضا والشيخ محمد عبده والداعية جمال الدين الأفغاني وشيخ الإسلام ابن تيمية.

تدريجياً انتقل مركز ثقل هذه الحركة من سنغافورة إلى إندونيسيا، حيث بدأت الحركة تأخذ شكلها المؤسسي في “جمعية خير” التي أنشأها نفر من العلويين بطريقة عرفية في مدينة بتافيا عام 1901م، وكان هدفها الأساس إعانة الفقراء وتعليم الأطفال. وفي عام 1903م تقدم أعضاء لجنتها التنفيذية بعريضة إلى مكتب شؤون الأهالي الهولندي للاعتراف بها رسميا، فصدر قرار الموافقة في سنة 1905م، شريطة أن يكون نشاط الجمعية محصوراً في مدينة بتافيا. وفي نفس العام انتخب السيد أحمد بن محمد بن شهاب الدين رئيساً للجمعية. وفي أبريل 1906 تقدمت الجمعية بطلب للتصادق لها بإنشاء مدرسة إعدادية لتعليم أبناء الجالية الحضرمية في بتافيا. وبعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ فتحت مدرسة جمعية خير الإعدادية أبوابها للتعليم المجاني، وبدأت أيضا تعقد دروسا عامة كل أسبوع للراغبين من النساء والرجال. وبهذه الكيفية توسعت أعمال جمعية خير، وطبع قانونها الأساس في سنغافورة، وفتحت لها مدارس إعدادية أخرى في معظم أحياء بتافيا. ثم بعد ذلك بدأت تلوح في الأفق فكرة انتداب معلمين من الخارج للعمل في مدارس الجمعية، لذا فقد بعثت الجمعية السيد عبد الله بن عبد المعبود الموصلي إلى الحجاز عام 1911 لاختيار معلمين أكفاء. وبوساطة الشيخ يوسف الخياط والسيد حسن بن محمد الحبشي تم التعاقد مع الأستاذ أحمد محمد السوركتي السوداني وصاحبيه الشيخين محمد الطيب المغربي ومحمد بن الحميد السوداني للعمل في مدارس جمعية خير في بتافيا.

 

أحمد محمد السوركتي: الأستاذ والداعية:

ولد الأستاذ أحمد محمد السوركتي في جزيرة أرقو بالولاية الشمالية في السودان عام 1876م من أسرة مشهود لها بالورع والصلاح والعلم، حفظ القرآن بخلاوى منطقة دنقلا ودرس مبادئ الفقه على والده، ثم تيمم شطر الحجاز عام 1897م هجرة في سبيل العلم والمعارف ورغبة في أداء الفريضة. وبعد أداء فريضة الحج أقام في المدينة المنورة أربع سنوات ونصف، خلالها درس علوم القرآن والحديث والفقه واللغة العربية على علماء أكفاء في ذلك العصر، أمثال المحدث عمر بن حمدان المغربي، والفقيه المالكي أحمد بن الحاج علي المجذوب، والعالم اللغوي الشيخ أحمد البرزنجي. وجاور في مكة المكرمة لمدة عشر سنوات حيث جود معارفه النقلية والعقلية على كبار مشائخ الحرم المكي أمثال العلامة أسعد بن عبد الرحمن الدهان، والشيخ محمد بن يوسف الخياط، والشيخ شعيب بن موسى المغربي. وبعد هذه الأربعة عشرة عاماً ونصف من السياحة في حلقات العلم والمعرفة بالحرمين الشريفين حصل المترجم له علي الإجازة العالمية من علماء الحجاز، وقيد اسمه في سجل علماء أم القرى، ثم صودق له بالتدريس في الحرم المكي.

وعلى ضوء هذه المؤهلات العلمية والخبرة العملية تم التعاقد مع الأستاذ السوركتي الذي وصل إلى مدينة جاكرتا بصحبة الشيخين محمد الطيب المغربي ومحمد عبد الحميد السوداني في شهر ربيع الأول عام 1329 هـ (مارس 1911م) ثم نزل ثلاثتهم ضيوفا على السادة العلويين الذين رحبوا بمقدمهم باعتبارهم أول هيئة علماء تصل من الأراضي المقدسة للعمل في مدارس جمعية خير. وفور وصولهم عين الأستاذ السوركتي مديراً لمدرسة باكوجان ومفتشاً للتعليم، والشيخ محمد الطيب معلماً بمدرسة كروكت، والشيخ محمد عبد الحميد بمدرسة بوقور.

إلا أن هذه التظاهرة الاجتماعية في استقبال هيئة العلماء القادمة من مكة المكرمة لا تمنعنا من أن نحلل موقف السادة العلويين تجاه حركة التعليم والإصلاح الاجتماعي، وأن نصنفهم إلى ثلاث مجموعات كل مجموعة حسب موقفها من حركة التعليم، لأن مثل هذه النظرة تمكننا من فهم أسباب الصراع الذي نشب فيما بعد بينهم وبين الإرشاديين. تشمل المجموعة الأولى المحافظين من السادة العلويين المناصب الذين ورثوا الجاه من آبائهم وأضحوا يمثلون القيادة الروحية والاجتماعية لأهالي حضرموت المقيمين في أندونيسيا، فقد كان هؤلاء في حالة توجس من الحركة التعليمية ويحسبونها لا تصب في معين طموحات الشخصيات، إلا أنهم شايعوها تقيّة.

وتمثل المجموعة الثانية قلب الحركة التعليمية النابض الذي كان يتألف من شباب البيوتات الصغيرة (أي العلويين غير المناصب) وبعض المتنورين من شباب السادة العلويين المناصب الذين كانوا يتظاهرون بالحرية والدعوة إلى المساواة ويوصمون أهل الجاه “بالغش والدجل والخرافات”. وخير شاهد على موقفهم هذا ما قاله رئيس جمعية خير السيد محمد بن عبد الرحمن بن شهاب مثمناً عطاء الأستاذ السوركتي وما حققه من إنجازات في سنته الأولى: “كنا لا نعتاد غير رؤية أصحاب الأردية الخضراء والسبح الرقضاء، ممن يخضبون لحاهم ويطوفون البلاد طولاً وعرضاً للاستجداء والتسول. أما الآن فقد أنعم الله علينا بالشيخ السوركتي الرجل العالم الصالح، وحصل على يديه نفع كثير وخير جزيل. وعضدت مجلة الشفاء في عددها الخامس من سنتها الأولى شهادة ابن شهاب بقولها: “كلنا نعلم أنه لم يفد إلينا في هذا العصر أو في الذي قبله لا في حضرموت ولا في المهجور رجل جاهد في سبيل رقينا وتشريفنا جهاد هذا الرجل الذي أصبحنا بفضل علمه وجده أحرار الضمائر مخلصي الدين، مجتهدين في التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما المجموعة الثالثة فكانت تتكون من بعض الشباب المتنورين والمولدين الذين لم يكن لديهم انتماء لحزب أو تشيع لمذهب وليس لهم رباط عقيدي يأطر لأفكارهم وطموحاتهم، لكنهم ظلوا يضمرون مناصرتهم إلى الإصلاح من أي طرف أتى.

في ظل هذه الظروف كانت النصرة إلى المجموعة الثانية التي أعجبت بعطاء السوركتي وهللت لإنجازاته، ثم فوضته بأن ينشأ مدرستين أخريتين في أحياء سرابايا وبتانه أبع بولتفردن وأن يختار أربعة أساتذة أكفاء للعمل في مدارس الجمعية التي اتسعت أنشطتها التعليمية وبرز دورها الإصلاحي. لم يكن هذه المرة مبعث الإلهام المعرفي هو الحجاز بل ظهر في الأفق اسم السودان، حيث تعاقد السوركتي مع الأساتذة أحمد العاقب شكرت الله، ومحمد نور بن محمد خير الأنصاري، وساتي محمد السوركتي، وحسن حامد الأنصاري للعمل في مدارس جمعية خير في إندونيسيا. وصل هؤلاء الأساتذة الأربعة إلى بتافيا عام 1913م ويقال أنهم جميعا كانوا من أنصار تعاليم الشيخ محمد عبده الذي درس بعضهم على يديه في الأزهر الشريف، وألم البعض الآخر بأدبياته العلمية المنشورة.

إذاً السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو منهج الأستاذ السوركتي التعليمي والتربوي الذي جعل المتنورين من العلويين يشيدون بإنجازاته وعطائه؟ تخبرنا أدبيات الإرشاديين بأن السوركتي فور توليه العمل بمدارس جمعية خير قام بوضع برنامج تعليمي متكامل، بين فيه طرق التدريس والعلوم (اللغة العربية مبادئ الفقه وبعض العلوم العقلية) التي يجب أن تدرس. ويبدو أن هذا البرنامج قد وجد قبولا عند إدارة جمعية خير والسادة المتنورين الذين كانوا يعتبرونه طفرة نوعية في مناهج التعليم وأساليب التدريس. وقد أكد هذه الفرضية أداء الطلاب في الامتحان النهائي وكفاءة الأساتذة السودانيين في توصيل المعلومة إليهم.

وبجانب هذه الأمور الأكاديمية نلحظ أن السوركتي قد أولى اهتماما خاصا بالناحية التربوية القائمة على غرس روح المساواة بين الطلاب والمثابرة في تحصيل العلم والمعارف. وفي هذا الشأن نجده قد رفض أن يأخذ برأي بعض العلويين المحافظين الذين طلبوا منهم أن يأمر الطلاب بأن “يقبلوا أيدي أولاد السادة العلويين” ، عند بداية اليوم الدراسي، وبالأحرى لم يكتف بالرفض ولكنه نحا منحاً أخر، حيث نظم أرجوزة سماها “أمهات الأخلاق” وأمر الطلاب أن ينشدونها عند بداية اليوم الدراسي ونهايته.

وبذلك حاول أن يُأصّل لروح المساواة بين الطلاب ويبين لهم أن العلم يرفع بيتاً لا عماد له و الجهل يهدم العز والشرف. وفي هذا المضمار تقول بعض مقاطع أرجوزته:

فالتعــــليم للأولاد مرفاة عرش المجد والإسعاد

ومجده المجد الأثيل الأسما وفقده الداء الذي لا يحمي

لا فخر بالزي ولا النسب ولا بجمع ورق أو ذهـب

لكنه بالعلـم والآداب والدين مصباح أولى الألباب

مرجـع الكل إلي آدم ومنه خلقهم بلا إرتيـاب

 

لا جدال هذا التوجه التربوي قد ترك أثراً سيئاً في نفوس بعض السادة العلويين المحافظين، لأن الدعوة إلى المساواة كانت تعني بالنسبة لهم الرفض الصريح للثوابت الطبقية التي أسسوا عليها مجدهم الاجتماعي وجاههم الديني، إلا أنهم لم يكونوا في وضع يؤهلهم لإعلان معارضتهم الصريحة للأستاذ السوركتي الذي حظي بتأييد الطبقة المتنورة، لكنهم كظموا غيظهم إلى أن تأتي الفرصة المناسبة التي تمكنهم من أن يعبروا عن رأيهم صراحة تجاه أفكار السوركتي التحررية.

وبعد أن أرسي السوركتي دعائم برنامجه التعليمي والتربوي بمدارس جمعية خير، خرج في السنة الثانية سائحاً وداعياً في جاوة الوسطى، ومن ضمن المدن التي زارها مدينة الصولو حيث نزل ضيفاً على نقيب العرب عوض بن سنكر العرمي. وفي فترة إقامته بدار العرمي طرح عليه سؤال حول حكم الشرع في “زواج الشريفة العلوية من غير العلوي”. ويقال أن الشيخ السوركتي قد أفتى بصحة عقد النكاح ونفي وجود أي مناع شرعي . ويبدو أن هذه الفتوى الفرضية قد أثارت حنق العلويين عليه لأنهم اعتبروها إهانة لهم، وبدأ بعضهم يعير الأستاذ بأنه معلم فقط فلا يجوز له أن يتدخل في مثل هذه المسائل الشرعية والاجتماعية. وفي هذا يقول السوركتي:

“يلمزني الجُهّال ويعيبونني بالاشتغال بصناعة التعليم ويقولون لي: كن معلماً وما أنت إلا معلم على سبيل التنقيص. فيا ترى إذا كان ما أنا فيه من تعليم الدين عيباً أكون بسببه محتقراً فأي صنعة أشرف منها أكون عظيماً محترماً إذا تمسكت بها؟ ويا ليت شعري إذا كانت إجابتي عن مسالة دينية سئلت عنها علي مقتضى ما علمت قد عد غلطاً وفضولاً وخوضاً فيما لا يعني ففي ماذا أكون معلماً”؟.

 

وعندما شعر الأستاذ بالقطيعة في وجوه القوم تداركا لموقفه هذا وعدهم بأنه سيلتزم السكوت وعدم الخوض في مثل هذه المسائل، لكن كفارة هذا الموقف من وجهة نظر السادة العلويين كانت تعني أن يصدر السوركتي فتوى أخرى ينفي ما قاله بدار العرمي. إلا أن هذا التحدي قد دفع السوركتي إلى تقديم استقالته في السادس من سبتمبر سنة 1914م إلى إدارة جمعية خير، وفي أحد بنود الاستقالة يقول “أن يبني وبينكم شرطاً وهو أن تؤدوا إلى حين إرادتي للسفر تذكرة المركب لي ولإخواني مع مصاريف السفر، فأرجو أن توفوا به لأرجع إلى مكة المكرمة التي جئت منها”. فكان رد الجمعية حول هذا الموضوع “لم تر الجمعية شيئا واجبا لك عليهم. والسلام”.

 

جمعية الإصلاح والإرشاد: الكسب والعطاء

ويبدو من هذه الاستقالة أن السوركتي كان عازماً على العودة إلى مكة المكرمة دون الدخول في صراع مكشوف مع السادة العلويين، إلا أن بعض وجهاء الحضارمة غير العلويين اثنوه عن هذا المسعى وشجعوه على إتمام المشوار التعليمي والإصلاحي الذي وضع لبناته في إندونيسيا. واستجابة لنداء هؤلاء عدّل السوركتي عن رأيه وفتح مدرسة خاصة في أحد بيوت نقيب العرب عمر بن يوسف منقوش بحارة جاتى سماها مدرسة الإرشاد الإسلامية.

ثم بعد ذلك اقترح المناصرون للأستاذ السوركتي ضرورة تأسيس جمعية تقوم بتوفير الدعم المادي والأدبي للمدرسة وتسهم أيضا في تنظيم أنشطتها التعليمية والتربوية. ومن هنا نبعت فكرة قيام جمعية الإصلاح و الإرشاد العربية في مدينة جاكرتا.

ويبدو أن تأييد نقيب العرب عمر بن منقوش وصالح عبيد عبدات وسعيد بن سالم المشعبي لقيام جمعية الإصلاح والإرشاد كان يعكس جزءا من الصراع الخفي بين السادة العلويين وبعض وجهاء المجتمع الحضرمي الذين أصبحوا أكثر قربا من موطن صناعة القرار في جاكرتا. وخير شاهد على هذا قول عمر بن سليمان ناجي عن ماهية الإرشاد ومبادئها:

 

الإرشاد حركة تحررية تقدمية ظهرت بين مغتربي العرب بإندونيسيا، تهدف إلى تغيير الوضع الاجتماعي الفاسد والعقائدي، ثم نشر العلم ومحاربة الأمية، وإطلاق الفكر من قيود التقليد ومحاربة الامتيازات العنصرية، ثم البدع والخرافات التي دخلت على الدين، ثم تمكين عقيد التوحيد ليكون الإنسان عبدا لله وحده، ولتكوين مجتمع إسلامي اشتراكي تعاوني تسود العدالة والمساواة.

 

لعل القارئ المتمعن في عبارات الأستاذ ناجي يلحظ أن الصراع الخفي بين الحضارمة والسادة العلويين كان يمثل الباعث الأساسي الذي مهد الطريق لقيام جمعية الإصلاح والإرشاد ومكّن الأستاذ السوركتي وبطانته من أن يصيغوا مبادئ الجمعية على ضوء المؤشرات التالية:

ـ توحيد الله توحيداً خالصاً بعيداً عن مظان الشرك الظاهر والخفي في الاعتقاد والأفعال والأقوال.

ـ المحافظة على الأخلاق الإسلامية التي جماعها: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتحافظ على عزة النفس وشرف العمل وعدم الخنوع لغير الله.

ـ المحافظة على العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها وعدم التهاون فيها.

ـ إحياء السنة الصحيحة وترك البدع وعدم المشايعة لها.

ـ التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.

ـ نشر العلوم الدينية العصرية واللغة العربية.

 

على هدي هذه المبادئ نشأت جمعية الإصلاح والإرشاد العربية وبدأت تبشر بفجر المساواة والإخاء والتعليم، ونتيجة للنجاح الذي حققته في هذا المضمار بدأت الطلبات تتري على مركزها العام في جاكرتا بغية إنشاء فروع مماثلة لها في الأقاليم. واستجابة لهذه النداءات ثم افتتاح فرع مدينة تقل عام 1817م، وفي عام 1919م افتحت ثلاثة أفرع أخرى في مدينة بكالونقان وشربون وبومي أيو، وفي عام 1927م أسس فرع للإرشاد بمدينة سورابايا، وتبعه في ذات العام فرع مدينة بانيووانقي وفي العام الذي يليه ثم افتتاح فرعي مدينة بندووسو، ومدينة بوقور، وفي عقد الثلاثينات ظهرت أفرع الإرشاد في فماللانق، سمارانق، شومال، فور وكرتو، صولو. وألحق كل فرع من هذه الفروع بمدرسة إعدادية لتعليم الناشئة الحضارمة علوم القرآن والحديث واللغة العربية والعقائد والفقه والتفسير، وبعض العلوم العقلية مثل الكتابة والحساب والتاريخ والجغرافيا والهندسة والهيئة والمنطق، وبعض اللغات الأجنبية مثل الهولندية والإنكليزية.

وقد علق الداعية رشيد رضا علي هذا النشاط بقوله: إن جمعية الإصلاح والإرشاد “غرضها إنشاء المدارس ونشر التعليم الديني والمدني الذي تقتضيه حالة العصر من الاستقلال وإحياء هدى الكتاب والسنة ومقاومة الخرافات الفاشية من طرق الابتداع في الدين”.

وبجانب هذا النشاط التعليمي اهتمت الإرشاد بتقديم المحاضرات العامة في المساجد والأندية الثقافية وذلك لتبصير الناس بأمورهم الدينية وبعض المسائل المرتبط بشؤونهم الحياتية، وأسهمت في تطوير العمل الصحي بإنشاء عدد من المراكز الصحية لتقديم الخدمات الوقائية والعلاجية بأسعار رمزية، وأسست عدداً من فرق الكشافة والموسيقى والرحلات وذلك لتدريب الناشئة على الصبر والعطاء ولترقية الحواس الفنية والذوقية فيهم.

ونجدها أيضا قد تركت بصمات واضحة في تاريخ الكفاح السياسي ضد الاستعماري الهولندي والياباني وفي هذا يقول الرئيس الإندونيسي (السابق) سوكرنو في مؤتمر حزب شركة إسلام المنعقد بمدينة الصولو في 19 أبريل 1951: “إن إندونيسيا لا ولن تنسى فضل الجمعيات التي ساعدت على إحياء النخوة والغيرة الدينية والوطنية التي عجلت بالثورة الكبرى والحصول على حريتنا، كحزب شركة إسلام السياسي وجمعية الإرشاد والمحمدية الدينيتين”.

وتحدثنا المصادر التاريخية أيضا عن إسهام بعض قادة الإرشاد في تأسيس حزب مجلس شوري مسلمي إندونيسيا (ماشومي) الذي تزعمه الدكتور محمد ناصر. وفور تأسيسه ظل هذا الحزب يمثل تيارا إسلاميا داخل البرلمان الإندونيسي وترياقا ضد الشيوعية في الشارع السياسي، الشيء الذي دفع الرئيس الراحل سوكرنو إلى حله عام 1959م.

 

الخصومة بين العلويين والإرشاديين

لم يحدث تطور جمعية الإصلاح والإرشاد العربية الذي أشرنا إليه في جو يسوده الوئام والإلفة والتعاون، بل كانت كل خطوة من خطواته محفوفة بمعارضة السادة العلويين، الذين كانوا يعتبرون الدعوة إلى المساواة ومحاربة الشفاعة والتوسل وزيارة القبور وفتح باب الاجتهاد وفق قيم الكتاب والسنة ابتداعا في الدين يهدد إرثهم الاجتماعي وتراثهم الصوفي بالزوال، لذا فعليهم أن يحاربوه بشتى الوسائل والسبل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. من ثم أخذ الخلاف بين جمعية الإصلاح والإرشاد وجمعية خير (أو الرابطة العلوية التي نشأت عام 1927) يزداد حدة وضراوة ويأخذ طورا آخر ملئ بالفجور في الخصومة.

وقد توقدت الشرارة الأولى لهذا الصراع في أكتوبر 1915م، عندما نشر أحد شباب آل باعلوى مقالا في جريدة “صولوه هنديا” الملاوية عن المساواة بين المسلمين، ويبدو أن كاتب هذا المقال قد انتقد فيه فتوى السوركتي التي أصدرها بشأن جواز زواج العلوية الشريفة بغير العلوي. وردا على هذا المقال أصدر السوركتي فتوى أخرى سماها “صورة الجواب”، تعرض فيها تفصيلا لموضوع الكفاءة في الزواج، ثم عضد رأيه القائل بجواز زواج العلوية بغير العلوي بعدد من الحجج والبراهين المستقاه الكتاب والسنة وآثار السلف.

لا شك أن صدور صورة الجواب قد أثار حفيظة السادة العلويين ودفعهم إلى التعريض برائد حركة الإرشاد والإرشاديين، الذي وصفوه بأنه “ذنديق يظهر الإسلام ويخفي الكفر”، وأوعزوا إلى الهولنديين بأنه “من أنصار المهدي السوداني، وأنه يسعى إلى تنظيم مهدوية ضد الحكم الهولندي”، وأفادوا الإنجليز “بأنه نصير اللاجي السياسي… الهندي الثائر على الإنجليز عبد السلام الكشميري” الذي كان مقيما بجاكرتا وعلى صلة بالأستاذ السوركتي ، ثم تقدموا بعريضة إلى شريف مكة الملك الحسين يثيرون فيه عصبية الهاشميين ويطلبون منه منع الإرشاديين عن أداء فريضة الحج بحجة أنهم أنصار حركة هدامة تهدف إلى تقويض دعائم آل البيت.

ووصفت الجريدة الإقبال – لسان حال العلويين- الإرشاديين بأنهم:

 

جماعة من أولئك الزعانف الذين ينتسبون إلى آل كثير ونهد بجاوا، لم يراعوا حرمة الجوار مع أهل البيت ولم يراقبوا حرمة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته ولم يكترثوا بجامعة الإسلام والوطن، [بل] طفقوا يتهافتون على أضاليل الدرويش السوداني، وينبذون أهل البيت…فشقوا عصا الحضارمة وأسسوا جمعية الإرشاد وفتنوا الأمة وطعنوا في الأنساب…و أنهم سوف لا ينجحوا إلا بوضع أيديهم في أيدي أهل البيت والعمل معهم يدا واحدة وتركهم دراويش السودان وزنوج افريقيا، هم لم يرضوا إلا باسترسالهم في البغي والهوى واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وسيعلم الذين ظلوا أي منقلب ينقلبون.

 

ومن جانب آخر صدر عدد من الرسائل الداحضة لصورة الجواب، ونذكر منها رسالة حسن بن زين باسلامة، ورسالة عبد الله صدقة دحلان المعروفة بـ”إرسال الشهاب على صورة الجواب” ، ورسالة علوي بن مديحج بسنغافورة، ورسالة محسن بن سالم العطاس. انتقدت هذه الرسائل فتوى السوركتي التي أصدرها حول مسألة الكفاءة في الزواج وجواز زواج العلوية من غير العلوي وحاولت النيل من شخصه وشككت في كفاءته العلمية.

أما مرافعة الإرشاديين فقد جاءت في كتاب أصدره أحمد العاقب شكرت الله بعنوان “فصل الخطاب في تأييد صورة الجواب” ، وقد انتقد فيه رسالة عبد الله صدقة دحلان التي وصفها بالسطحية وعدم الموضوعية وانتقد صاحبها انتقادا شخصيا، الشيء الذي دفع علوي بن طاهر الحداد أن يصدر كتابه الموسوم بـ “القول الفصل فيما لبني هاشم وقريش والعرب من الفضل”. وفي هذا الكتاب الضخم الذي يزيد عدد صفحاته عن الألف صفحة استعرض المؤلف فضائل آل البيت، وانتقد ما جاء في صورة الجواب ووصف صاحبه “بجهل ما هو معلوم من الدين بالضرورة”، ثم تناول كتاب فصل الخطاب في تأييد صورة الجواب نقادا ومستهجنا وواصفا إياه بعدم الموضوعية والخواء الفكري.

وردا لاعتبار الإرشاديين أصدر السوركتي رسالة في الرد على كتاب “القول الفصل فيما لبني هاشم وقريش والعرب من الفضل” داحضا فيها الحجج والبراهين التي آثارها الحداد بشأن إقرار الكفاءة الذاتية لآل البيت وانسحاب ذلك على الكفاءة في الزواج.

وأخيرا انتقل الصراع من دائرة الحرب الكلامية والشكاوي إلى أهل السلطان في إندونيسيا وحضرموت إلى دائرة الاعتداءات الشخصية والبلاغات الكيدية أمام السلطات الهولندية. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر حادث مسجد النور بمدينة بندووسو، حيث اشتبك أكثر من خمسين شخصا من أنصار العلويين وخصمائهم الإرشاديين، وانتهى الحادث باغتيال شخصين من العلويين وإصابة ستة أشخاص من الإرشاديين بجراح. ونتيجة لهذه التطورات اتسعت الشقة بين أبناء حضر موت وانقسموا فيما بينهم بين أنصار السادة العلويين والإرشاديين، وامتدت دائرة الصراع لتشمل شخصيات مرموقة في العالم الإسلامي أمثال الداعية محمد رشيد رضا والشيخ عبد العزيز الرشيد وأمير البيان شكيب أرسلان الذين أظهروا نوعا من التعاطف تجاه قضية الإرشاديين.

لا جدال أن الصراع بين السادة العلويين والشيخ أحمد السوركتي قد خلف أثار سلبية وإيجابية، أسهمت بدورها في إعادة تشكيل بنية المجتمع الحضرمي الإندونيسي سياسيا واجتماعيا وفكريا. ويمكننا في هذا المضمار أن نجمل الآثار الإيجابية فيما يلي:

أولا: تقدم حركة التعليم الديني والمدني التي قادتها جمعية خير وجمعية الإصلاح والإرشاد العربية وذلك عن طريق المدارس التي تم إنشاؤها والمناهج التي سار عليها العمل التعليمي والتربوي.

ثانيا:بزوغ فجر الصحافة العربية في إندونيسيا وذلك بظهور مجموعة من الصحف العربية التي يقدرها عددها بخمسين صحيفة، صدر معظمها واحتجب في الفترة ما بين الحربين العالميتين (1914-1945م). ومن صحف السادة العلويين النشطة نذكر “الإقبال” و “حضر موت” و “الرابطة” ومن صحف الإرشاديين “الإرشاد” و “الدهناء” و “الذخيرة الإسلامية”.

ثالثا: الدعوة إلى إحياء مبادئ التوحيد وإخلاص العبادة لله والاستعانة به في كل الأمور، وإنتقاد البدع والخرافات التي فرضتها رجاحة الموروث الفقهي غير المتبصر بثوابت الكتاب والسنة، ثم الدعوة إلى الحرية والمساواة وفتح باب الاجتهاد في الأمور الدينية الظنية والشؤون الحياتية المعاصرة.

أما الآثار السلبية للصراع بين الإرشاديين والعلويين فقد تجسدت في التنازع والتدابر والتباغض الذي وروثه المجتمع الحضرمي، وفي انشغال الدعاة بالقضايا الإنصرافية والاختلافات حول المسائل الفرعية التي لا تتعلق بأصول الدين، وفي أضعاف نفوذ العرب في أوساط الإندونيسيين الذين كانوا ينظرون إليهم بمثابة القدوة الحسنة التي يمكنها أن تسهم في إصلاح الدين وتمكين أواصر المودة والإخاء الإسلامي والدعوة إلى إحياء الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.

 

إرهاصات الصلح وإحباطات الفشل

لا يمكننا أن نعمم ونصف كافة الإرشاديين والعلويين بأنهم قد أغلقوا باب الحوار والصلح فيما بينهم وتخندق كل منهم في خندقه، لأن مثل هذه الفرضية تحجبنا عن رؤية وتقييم بعض المبادرات التي قام بها نفر من الوسطاء الذين انطلقوا من مبدأ مناصرة الأخ لأخيه ظالما ومظلوما ومن مبدأ إصلاح ذات البين بين الفرقاء.

ونذكر على سبيل المثال مبادرة السيد إسماعيل عبد الله بن علوي العطاس، ممثل العرب في مجلس العموم الإندونيسي، والتي حاول من خلالها العطاس أن يجمع شمل العرب على اختلاف مشاربهم السياسية والاجتماعية في كيان سياسي اقترح له اسم الرابطة العربية وأوضح أن غايته ستكون خدمة مصالح العرب والدفاع عن حقوقهم في مجلس العموم الإندونيسي ومؤسسات الدولة الأخرى.

وكانت نقطة الانطلاق بالنسبة العطاس هي الدعوة إلى مؤتمر جامع يجيز القانون الأساس للرابطة العربية المزمع قيامها ويحدد أهدافها واختصاصاتها وواجباتها، ولبلوغ هذه الغاية كون العطاس لجنة عشرينية لتقوم بالإعداد للمؤتمر الذي أعلن تاريخ انعقاده في التاسع من فبراير 1919م بمقر جمعية خير بحارة تانه اباع في مدينة جاكرتا. وقد شملت عضوية اللجنة عددا من وجهاء السادة العلويين والإرشاديين بما فيهم الأستاذ أحمد السوركتي. وبالفعل قد وجدت هذه المبادرة قبولا من كل الأطراف عدا بعض العلويين الذين رفضوا التعاون مع اللجنة المختارة بحجة عضوية أحمد السوركتي الذي يعتبرونه “أصل الشقاق والتنافر بين الحضارم”. ومن ثم مات مشروع العطاس قبل أن يرى النور.

ولم يثبط فشل العطاس همم الداعين لإصلاح ذات البين بين الإرشاديين والعلويين، ففي الخامس من فبراير 1921م طرح أحد المصريين المقيمي بسنغافورة يدعي حسين عابدين مشروع صلح يقضي بعدم “لزوم تقبيل يد السيد، وعدم لزوم احترام من لا يستحق الاحترام سواء كان علويا أو شيخا، وعدم التعصب في مسألة الزواج فلكل الحرية في تزويج بنته أو أخته أو غيرهما لمن يريد”، وأن تقبل “المدارس العربية…جميع الطلبة على حد سواء أولاد سادة كانوا أو أولاد مشائخ”. وفي نفس الوقت وعد الوسيط حسين عابدين بأن الاجتماع المزمع عقده بين الطرفين لإجازة شروط الصلح سيحضره هو شخصيا وبرفقته قنصل السفارة البريطانية ليكونا شاهدين على الطرفين. إلا أن مبادرة حسين عابدين كسابقة رفضت من السادة العلويين الذين كانوا يرون فيها محاباة واضحة لخصومهم الإرشاديين.

هكذا ظل الإرشاديين والعلويين يعيشون صراعا مريرا تتخلله إرهاصات الصلح واحباطات الفشل، ففي فبراير 1928 وصل إلى جاوة قادما من اليمن مفتي حضرموت السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف بغرض الصلح بين الفريقين المتنازعين، وتحقيقا لهذا المسعى وضع الشروط التالية:

ـ ترك السباب والشتم بين الطرفين بما في ذلك الطعن في الأنساب.

ـ أن يكون مذهب الحضرميين جميعا هو مذهب الشافعي، فما اختلفوا فيه من شيء فمردهم إلى المعتمد من المذهب.

ـ أن تكون حقوق الإسلام مبذولة بين الطرفين.

وعلى حد قول الدكتور الحجي أن هذه الشروط قد عرضت على الخصمين ووجدت قبولا من السادة العلويين ونوع من الإعراض والتشكك من بعض الإرشاديين. لذا فإن جهود السقاف قد ذهبت مع الريح وعادت الخصومة أشد فجورا مما كانت عليه بين الطرفين. والسبب في ذلك يعزي إلى تصاعد النشاط الصحفي غير الملتزم بأدبيات الخلاف وإلى أقلام الصحفيين التي كانت تستبدل الذي هو أدنى (الخصام) بالذي هو خير (الصلح) رغبة منها في تحقيق الكسب المادي الرخيص.

ولم تقف مبادرات الصلح بين الحزبين المتخاصمين عندما هذا الحد، بل ذهبت تلتمس توسط بعض الوجهاء الذين يمكن أن يوصف تصرفهم تجاه هذه القضية بالحيدة والعدالة. ومن ثم نجد أن الأستاذ السوركتي عندما ذهب لأداء فريضة الحج عام 1928م حاول جاهدا أن يشرك الملك عبد العزيز بن سعود وأعضاء الرابطة الشرقية في القاهرة في قضية الصراع بين العلويين والإرشاديين ويطلب منهم التوسط في تسوية الخلافات بين الطرفين، واستجابة لهذا النداء فقد فوضت الرابطة الشرقية الأستاذ السوركتي والسيد إبراهيم السقاف ليقوما بالإصلاح، وقبل أن تكلل مساعيهما بالنجاح وقعت بعض المشادات الصحفية والاعتداء الشخصية بين الخصماء، الشئ الذي أسهم في فساد مبادرة الرابطة الشرقية.

أما الملك عبد العزيز بن سعود فقد بعث في يوليو 1933 كتابا إلى الفريقين بوساطة إبراهيم بن عمر السقاف يدعوهم فيه إلى نبذ التباغض والتخاصم والعودة إلى أخوة الإسلام. وعلى ضوء نداء ابن سعود دعا إبراهيم السقاف إلى هدنة لمدة عامين، يتم خلالها التوصل إلى صلح نهائي بين الطرفين، إلا أن الإرشاديين قد هاجموا السقاف ووصفوه وقومه بعدم الجدية في التوصل إلى صيغة صلح نهائي متعللين بأن الصلح يجب أن يقوم على نفس الشروط التي اتفق عليها الفريقان قبل نداء بن سعود. ويبدو أن السقاف قد استهجن خطاب سكرتير جمعية الإصلاح والإرشاد، بدر بن سالم بن تبيع، في هذا الشأن، ثم أخيرا سحب نفسه من مشروع الصلح واعتزل التدخل في قضايا الإرشاديين والعلويين.

وكما يرى البكري فإن فشل هذه المبادرات التي أشرت إليها إجمالا قد دفع العناصر المولدة (أو مواليد العرب) إلى تكوين كيان سياسي يعرف بـ “وحدة المواليد العربية” في جاكرتا، وقد أنشئت لهذه الوحدة عدد من الشعب في بعض المدن الإندونيسية، وقد حددت مهامها في النقاط التالية:

• مطالبة الحكومة بإقرار حقوق المواليد العرب السياسية والمدنية، وذلك قياسا بحقوق مواليد الجاليات الأخرى.

• إنشاء مدارس هولندية عربية تمكن الناشئة العرب من مواصلة دراساتهم العليا في المدارس الحكومية.

• توثيق الصلات بين المواليد العرب وبقية أفراد المجتمع الإندونيسي.

• تجاوز الصراع الحادث بين الإرشاديين والعلويين.

وبالفعل قد وجدت هذه الوحدة قبولا في أوساط شباب الإرشاديين والعلويين الذين ملّوا صراع آبائهم حول القضايا التي لا تخدم واقعهم المعاصر، وبدأوا نشاطاتهم بتأسيس مدرسة هولندية عربية في سرابايا تابعة لوزارة المعارف العمومية، ثم أصدروا مجلة بالملايو لتكون حلقة الوصل بينهم وبين قطاعات المجتمع الإندونيسي وتكون بمثابة منبر حر لطرح أفكارهم السياسية وتحقيق مطالبهم المدنية. بالرغم مما حققته هذه الوحدة من نجاح في سنواتها الأولى إلا أنها تقوقعت واختفت تدريجياً من الساحة السياسية والاجتماعية ويعزي السبب في ذلك إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال اليابان لإندونيسيا عام 1942م.

هكذا كانت مسيرة الصراع بين السادة العلويين والإرشاديين طويلة ومريرة ومحفوفة بالمكاره، لكن توجد على جوانبها بعض القبسات المشرقة التي أطلقت عليها الباحثة الأسترالية نتاليا موبيني كيشه Natalie Mobini-Kesheh “نهضة العرب الحضارمة في إندونيسيا”.

 

خاتمة:

وبهذه العرض نخلص إلي أن مفهوم الإصلاح والإرشاد عند الأستاذ السوركتي قد استقي ثوابته الفكرية من معين حركة الإصلاح والتجديد الحديثة، التي قادها الداعية جمال الدين الافغاني، ووسع أوعيتها الأستاذ محمد عبده ، وأعطاها قوة وفاعلية تلميذه محمد رشيد رضا، وذلك عن طريق إسهاماته الفكرية التي كانت تنشر في مجلة المنار. ويمكننا أن نجمل السمات العامة لهذا التأثر أو التوافق الفكري فيما يلي:

أولاً: الالتزام بالتوجه السلفي الذي يأصل لعقيدة التوحيد الخالص بعيداً عن شوائب الشرك الظاهر والخفي، وينادي بتخصيص العبادة لله وحدة والاستعانة به في سائر الأمور. وفي هذا السياق تتم محاربة البدع والخرافات التي مكّن لها عدد من الدعاة والمتصوفة الذين حادوا عن جادة عقيدة السلف الصالح. وهذا التوجه السلفي التربوي نجده يمثل ذرة سنام تعاليم محمد بن عبد الوهاب (1703 ـ 1792) التي تعتبر واسطة عقد تصل تراث ابن حنبل وابن تيمية بتراث قادة حركة الإصلاح والتجديد. وفي هذا يقول السوركتي: أن “خطتي الدين .. والغاية التي أسعى إليها هي نشره بين جمهور الأمة وإظهاره بمظهره الحقيقي، ومجاهدة البدع والخرافات التي فشت في الأمة. ابني دعايتي على أساس نصوص القرآن والسنة وإجماع السلف الصالح”. لا غرو أن هذه العبارات المختارة من أقوال السوركتي تؤكد أن هناك توافق وتواصل فكري بينه وبين قادة الإصلاح، ويغلب الظن أن منشأ هذا التوافق والتواصل يرجع إلى إلمام السوركتي بأدبيات أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب، وإلى إطلاعه على بعض أعداد مجلة المنار التي كانت تروج لأفكار الإصلاحيين في ذلك الوقت، ثم إلى صلته الوثيقة بزملائه السودانيين الذين انتدبهم للعمل بمدارس جمعية خير في جاكرتا، والذين لازم بعضهم مجالس الشيخ محمد عبده بالأزهر الشريف وأضحوا من المناصرين لأفكاره.

ثانياً: العودة إلى أصول الدين الإسلامي في معالجة مشكلات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة كما كان عليه الحال في الصدر الأول من الإسلام، فمن وجهة نظر السوركتي إن هذه النقلة النوعية تعني الفهم الشمولي للدين، ويرى أن هذه الغاية لا يمكن أن يدركها المسلم إلا بفتح باب الاجتهاد الذي يحقق التوافق والانسجام بين النصوص النقلية (الكتاب والسنة) والواقع الحياتي المعاش، وبالتالي ينفي السوركتي وجود قطيعة بين النص الديني وشؤون الناس الحياتية، وينتقد المتصوفة بقوله إنهم قد “جعلوا الدين عدوا للعلم والعقل”. وبذلك يعزي السبب الأساس في نفور الصفوة المتعلمة من الإسلام إلى تذرع هذه الصفوة بأن الإسلام دين لا يلبي تطلعات العصر الذي تعيش فيه. وتجاوزا لهذه القطيعة يرى أن رسالته يجب أن تتبلور في “إظهار الدين أمام [هذه الصفوة] .. بجوهره الحقيقي وكونه لا ينافي العلم والعقل وأحوال العصر الحاضر”. وفي رسالته الموسومة “بالمسائل الثلاثة” يناقش قضايا الاجتهاد والتقليد والسنة والبدعة. ونجد أن رأيه في هذا الشأن يتوافق مع رأي الإمام الشوكاني وتتطابق وجهة نظره مع وجهة نظر الشيخين عبده ورضا وذلك استناداً إلى قوله بأن الاجتهاد هو الآلية الوحيدة التي يمكن من خلاله أن يضع المسلمون حداً للقطيعة بين النص الديني والواقع الحياتي المعاش ويمكّنهم من أن يشرعوا لقضاياهم المعاصرة في إطار ثوابت الفقه الإسلامي.

ثالثاً: الاهتمام بتعليم أبناء الأمة الإسلامية ذكوراً وإناثاً وفق برنامج يزاوج بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية التي أسهمت إسهاماً فاعلاً في تطوير المجتمعات الغربية. وبهذه الدعوة يحاول السوركتي أن يساير دعاة النهضة الإصلاحية الذين أولوا اهتماماً خاصاً لضرورة تعليم الفرد المسلم بحجة أن التعليم يسهم في تحقيق توازن بين النص والعقل والعلم، ويبدو من أفكاره هذه أن التوازن يعني بالنسبة له تنقية الدين الإسلامي من أدران التقليد الأعمى (أو العمياني كما يسميه) الذي أقعد الأمة الإسلامية عن مواكبة ركب الحضارات الأخرى. ومن وجهة نظر السوركتي أن التعليم “هو أساس كل تقدم ومبدأ كل مجد، والسبب الأول لكل نجاح في العالم فلا يحتقر أهله إلا جاهل غبي”. لذا فإنه يقر بأن المحافظة على مستقبل التلاميذ وجمعية الإصلاح والإرشاد والأمة العربية في إندونيسيا لا يتحقق إلا بتبني البرامج التعليمية للمدارس الهولندية وتدريس اللغات الأوربية الحية وذلك بجانب العلوم الإسلامية واللغة العربية. ثم يذهب أبعد من ذلك ويشيد بأهمية إبتعاث الطلاب إلى أمريكا وأوربا للتسلح بالعلوم العصرية لكنه يحذر في نفس الوقت من الأمراض الاجتماعية والفكرية التي ربما يجلبها مثل هذا الإبتعاث. لذلك فنجده يستدرك ويقول “لكن مادامت العلوم يمكن أن ينالها الطالب هنا [أي في إندونيسيا] تحت مراقبة المراقبين من الأساتذة فالأولى أن لا يذهب إلى محل آخر وفيه خطر على المبدأ”. وبهذه الرؤية يحاول السوركتي أن يتبنى منهجاً تعليمياً تلامس أطرافه منهج الدعوة المعاصرة “لأسلمة العلوم الإنسانية”.

رابعاً:الدعوة إلى تحقيق الحرية والمساواة بين المسلمين، وتعد هذه الدعوة من المبادئ الأساسية التي شغلت حيزاً مقدراً في أدبيات السوركتي وذلك بخلاف ما كان عليه الحال عند دعاة الإصلاح والتجديد. والسبب في ذلك يعزى إلى طبيعة المجتمع الحضرمي الذي عاش بين ظهرانيه السوركتي، والذي كانت صفوته تناهض مثل هذه الأفكار وتعتبرها خروجاً صريحاً على ثوابت الدين الموروث الذي تدثر بعباءة “الإسلام الطبقي”. وحول هذه النقطة ـ كما رأينا من قبل ـ قد تمركز الصراع بين الإرشاديين والسادة العلويين، و بشأنها قد أصدر الأستاذ السوركتي أهم رسائله وفتاويه المتمثلة في “صورة الجواب” و”المسائل الثلاثة” و”أمهات الأخلاق”، و”الآداب القرآنية”.

هذه هي المرتكزات الأساسية التي قامت عليها دعوة السوركتي الإصلاحية وبفضلها استطاعت أن تحدث تأثيرا محسوساً وملموساً داخل المجتمع الحضرمي في إندونيسيا وخارجها، كما أشرنا إلى ذلك تفصيلاً في أكثر من موقع من هذا البحث. أما تأثير دعوته على المجتمع الإندونيسي بصورة شاملة فقد كان محدوداً والعلة في ذلك ترجع إلى الصراع الذي نشب بين الإرشاديين والعلويين، وأقعد الدعاة عن أداء رسالتهم على الوجه الأكمل، وإلى عدم إلمام السوركتي نفسه بلغة الملايو الشيء الذي حد من فاعلية انتشار تعاليمه وافكاره في أوساط المجتمع الإندونيسي الناطق بغير اللغة العربية. إلا أن محدودية انتشار الدعوة “السوركتية” في إندونيسيا لا تمنع الباحثين من أن يقيموا إسهاماته الفكرية تقييماً علمياً يضعها في موضعها الصحيح ويبين ما قدمته من إسهام يصب في محصلة العطاء العام لإسهامات حركات الإصلاح والتجديد الأخرى في جنوب شرق آسيا وبقية بلدان العالم الإسلامي. وسيكون بأذن الله مشروع بحثنا القادم حول هذا الموضوع

ولمعرفة المزيد اليكم الرابط الاتي http://ajyalsudan.blogspot.com/2011/06/blog-post_81.html

 

مع تحيات اخوكم ومحبكم ابو جاسم محمد عندالله الانصاري

اضف رد