أخر المستجدات
مناظرة أبي عبيدة الخزرجي الانصاري مع القسيس الأسباني حنا (1)

مناظرة أبي عبيدة الخزرجي الانصاري مع القسيس الأسباني حنا (1)

مناظرة أبي عبيدة الخزرجي مع القسيس الأسباني حنا (1)


بسم الله الرحمن الرحيم

مناظرة أبي عبيدة الخزرجي مع القسيس الأسباني حنا (1)

مقدمة :

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، عليه وعليهم أزكى الصلاة وأتم التسليم .  وبعد:

فقد كانت أحداث هذه المناظرة في الأندلس، في نهاية القرن السادس الهجري، وتحديداً في طليطلة التي كانت حصن الدولة الإسلامية الشمالي.

وذلك بعد أن انتزعها الفونس السادس ملك قشتالة (عام 478هـ، 1085م ) من أيدي المسلمين، الذين فتحوا الأندلس في نهاية القرن الهجري الأول (عام 92هـ)، بداية القرن الثامن الميلادي (عام 711م) على يد الجيش الذي جهزه موسى بن نصير بقيادة طارق بن زياد الليثي -رحمهما الله-  وحكموا الأندلس ثمانية قرون، حتى نهاية القرن التاسع الهجري( عام 897هـ )، نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (عام 1492م).

وقد بلغت الأندلس فيها أوج مجدها وحضارتها، ونكتفي بشهادة المستشرق الأسباني (جاينجوس) الذي وصف ذلك التاريخ بقوله :” لقد سطعت في أسبانيا ( الأندلس ) أول أشعة لهذه المدنية التي نثرت ضوءها فيما بعد على جميع الأمم النصرانية، وفي مدارس قرطبة وطليطلة العربية،جمعت الجذوات الأخيرة للعلوم اليونانية بعد أن أشرفت على الانطفاء، وحفظت بعناية. وإلى حكمة العرب وذكائهم، ونشاطهم، يرجع الفضل في كثير من أهم المخترعات الحديثة وأنفعها “.

في تلك الفترة من تاريخ المسلمين في طليطلة..ظهرت معارك فكرية عقدية – بجانب المعارك العسكرية- حول الإسلام والمسيحية، وكان بعض المسلمين الذين بقوا فيها تحت الحكم المسيحي يتعرضون لهجوم منظم يستهدف تعاليم الإسلام ..فكان قسيس أسباني يلقي أسئلة على بعض المسلمين بهدف زعزعة عقيدتهم؛ فوجد أولئك المسلمون في أبي عبيدة الخزرجي –  اسمه : أحمد  بن عبد الصمد بن محمد الأنصاري الخزرجي الساعدي ، فقيه أندلسي، ولد في قرطبة( عام 519هـ، 1125م) ، وعاش في طليطلة، وفيها ألف الكتاب وعمره 23عاما، ثم انتقل إلى مدينة فاس وتوفي بها (سنة 582هـ، 1187م) – بغيتهم وسندهم بعد الله في الرد على أسئلة القسيس. وعند معرفة القسيس بذلك ، كتب إلى أبي عبيدة كتابا، يدعوه فيه إلى اعتناق المسيحية؛ فرد عليه أبو عبيدة بكتاب أيضا..

وسأطرح هنا ما احتوت عليه هذه المكاتبة؛ ونظرا إلى أن هذه المكاتبة تضمنت العديد من المحاور التي يمكن تنظيمها في هيئة فصول كما فعل الدكتور : محمد شامة – جزاه الله خيرا – في تحقيقه للكتاب الجامع لهذه المكاتبة ، وأسماه ( بين الإسلام والمسيحية)، إلا أن المحافظة على ترتيب النص قد حال دون تنظيم المكاتبة بشكل يبرز رأي الطرفين في كل محور على حدة، وهذا ما جعلني أطرحها بين يدي القراء في صورة مناظرة بين الطرفين؛ ليسهل مطالعتها وفهمها، وسيكون على شكل حلقات بإذن الله تعالى .

وقد اعتمدت في عملي هذا على ما وجدته في كتاب ( بين الإسلام والمسيحية )، تحقيق وتعليق الدكتور محمد شامة، طبعة مكتبة وهبة بمصر (عام 1395هـ، 1975م)، والذي اعتمد فيه على مخطوطتين ونسخة مطبوعة:

1- مخطوطة مكتبة أحمد الثالث باستانبول، وعنوان الكتاب فيها:( مقامع هامات الصلبان ومراتع روضات الإيمان ).

2- مخطوطة في المكتبة الأحمدية بتونس، وعنوان الكتاب فيها:( مقامع الصلبان في الرد على عبدة الأوثان).

3- نسخة طبعت بمصر عام 1316هـ، وعنوانها: ( الفاصل بين الحق والباطل).

أما ما يجده القارئ من تعليقات على نص المكاتبة فهو للمحقق: محمد شامة، وأما ما قمت به من تعليقات فستجدها مصدرة بعبارة: مناظرة.

أسأل الله العلي العظيم أن يسددني في هذا الطرح ويوفقني لبيان الحق؛ عسى أن يكون سببا للهداية والرشاد.

v  إعداد: متعب عمر الحارثي .

؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛

مناظرة أبي عبيدة الخزرجي مع القسيس الأسباني حنا (1)

الحلقة الأولى: دعوى ألوهية عيسى عليه السلام

رسالة القسيس الأسباني إلى أبي عبيدة الخزرجي :

من (حنا مقار العيسوي([1])) باسم الأب ، والابن ، والروح القدس ، إله واحد، سلام عليك أيها الفتى ، الإسماعيلي ، المحمدي ، ورحمة الله وبركاته . أما بعد:

حمداً لله الذي هدانا لدينه ، وأيدنا بيمينه ، وخصنا بابنه ، ومحبوبه ، ومد علينا رحمته بصلبه([2]) يسوع المسيح إلهنا ، الذي خلق السموات والأرض ، وما بينهن ، والذي فدانا بدمه المقدس ، ومن عذاب جهنم وقانا ، ورفع عن أعناقنا الخطيئة، التي كانت في أعناق بني آدم بسبب أكله من الشجرة ([3])، التي نهى عنها ، فخلصنا المسيح بدمه ، وفدانا بدمه ومن عذاب جهنم وقانا .

أهرق دمه في مرضات جميع ولد آدم ، إذ كان الذنب باقيا في أعناق جميعهم([4])، فكلهم تخلص منه([5])، إلا من كفر به، وشك فيه ….

فإذا أردت أن يتغمدك الله برحمته ، وتفوز بجنته ، فآمن بالله وقل إن المسيح ابن الله الذي هو الله ، والروح القدس ، ثلاثة أقانيم في أقنوم واحد([6])فستنجح وترشد .

ألم تسمع ما في الكتاب ، الذي جاء به صاحب شريعتك : أنه روح الله وكلمته([7])، وأنه كان وجيها في الدنيا والآخرة ، ومن المقربين([8])، وأين من هو أوجه في الدنيا والآخرة من المسيح ابن الله ؟

  1. والآن نطالع رد أبي عبيدة الخزرجي:

رسالة أبي عبيدة إلى القسيس حنا ..

أولاً: إبطال دعوى ألوهية عيسى عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم ..إله ، فرد ،صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد.

سلام على المهتدين ، والحمد لله رب العالمين ، مفضلنا بالإيمان على جميع الأجناس ، وجاعلنا خير أمة أخرجت للناس، نوحد الله بموجبات توحيده، ونمجده سبحانه حق تمجيده، ونؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله([9])، ولا نشرك بعبادة ربنا أحدا([10]).

وصلى الله على سيدنا ، ومولانا ، ونبينا محمد ، خلاصة أصفيائه ، وخاتم رسله ، وأنبيائه ، سيد الآدميين ، المبعوث رسولا في الأميين([11]).

صلى الله عليه وسلم ، من نبي كريم ، على خلق عظيم، جاءنا على فترة من الرسل([12])، موضحا السبل ، داعيا إلى خير الملل، ملة أبينا إبراهيم .((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ..)) ([13]). ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) ([14]). ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)) ([15]) . ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) ([16]).

عجبي للمسيح بين النصارى   ***   وإلى أي والـد نسبوه

أسلموه إلى اليهود وقالوا   *** إنهم بعد قتله صـلبوه

وإذا كان ما يقولونه حقا *** وصحيحا فأين كان أبوه

حين خلى ابنه رهين الأعادي  *** أتراهم أرضوه أم أغضبوه

فلئن كان راضيـا بأذاهم  ***   فاحمدوهم لأنهم عـذبوه

ولئن كان ساخطا فاتركوه  *** واعبدوهم لأنهم غلبـوه

أما بعد :

أيها .. الطاعن على كتاب الله جهلا ، ولا يعرف لخطابه فصلا ، والملتمس له تأويلا ، وأنت لم تؤت من العلم كثيرا ولا قليلا .

هلا راجعتك بصيرتك ، وناجيت بالتحقيق سريرتك ؟ فعلمت أنه منزل بلغة لا تعلمها ، وعبارة لا تفهمها .  ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ..))([17]) .

ومن أعجب قولك ، الشاهد على جهلك أن تندب مسلما إلى الإيمان بالله ، وترغب مؤمنا في عيسى ابن مريم رسول الله. وكلتا الخلتين قد أحكم عندنا مضمارها، ولدينا ثبوتها واستقرارها ، ومنا صدع ظهورها في الخليقة واستمرارها . كواكب الإيمان بالله عندنا تتجلى ، ونحن بالمسيح ابن مريم رسول الله أولى([18])؛ قدرناه حق قدره ، وقلنا بفضله المعلوم وفخره ، واعتقدناه بمنزلة تقبلها الأفهام، وتليق بالعقول والأوهام.

((لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)) ([19]).

وتبرأنا من قوم غدوا فيه على طرفي نقيض :

مفتون به ضال ، وظالم بغيض ، وهما في عمى بصائرهما سيان ، ولدى حلبة الكفر فرسا رهان.

أما المفتونون به الضالون فقد أوقعوا أنفسهم في خطيئة ذات شقين، يستحيل غفرانها :

الأول  : الإشراك بعبادة الله غيره .

الثاني: أنهم أوردوا عيسى بغلوهم فيه موردا يعتذر عند الله منه يوم الحشر بين يديه ، إذ يقول له ، وهو تبارك وتعالى أعلم :

((.. أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) ([20]) .

أما من أبغضه ، أو سبه ولعنه ، فإنما أوردوه بفعلهم موردا يكون الله حسيبهم فيه ، والقائم دونه ، يأخذ حقه منهم …

أخبرني أيها الجاعل الهه المسيح من حيث هو من الله روح !

لِمَ تظلم آدم ؟

وأنتم تقولون وتوافقون : إن الله تعالى نفخ فيه من روحه بعد أن سواه من تراب .

وتقولون : إن المسيح نفخة من روح الله في رجل سواه الله تعالى من لحمة مريم ، المتخذة من آدم ، فلحمه إذن بمنزلة ترابه ، ونفخه من روح الله بمنزلة نفخة من روح الله ، فلماذا أوجبت الألوهية لعيسى، ولم توجبها لآدم ؟! وأنت تقر له بروح من الله في حجاب من تراب؟!

ما أزين بك أن تقول : إن الله خلق عيسى وأمه آية للناس ، عبدا ورسولا ، وهي صديقة مباركة ، و كانا يأكلان الطعام([21])، وأكل الطعام هنا كناية عن التغوط ، وقد كان يجب لله تعالى لو سبق في حكمه أن يكون إنسانا وينزل لمقابلة عباده – كما زعمت – أن يمتنع عن التغوط؛ إذ هو دنية ابتلي بها آدم وبنيه ، مبينة لنقصهم واحتقارهم. وهو تعالى المختص بالكمال ، والموصوف بالعظمة والجلال فلا يليق به تلك الدنية ، ولا نعلم في فرق ملتكم من يقول : إن عيسى لم يكن يتغوط ، ولا يبول. حاشى الله أن يحقر خلقا له بدنية ، يراها أخس الآدميين عارا على نفسه ، ثم يتشبه بعبيده فيها ، بل كان يتركها دون غيرها من صفات الإنسانية .

أليس من الواضح عند ذوي العقول: أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابنا لله تعالى، ولما لم يبعد خلق آدم من التراب، لم يبعد أيضا خلق عيسى عليه السلام من الدم، الذي كان يجتمع في رحم أمه عليهما السلام؛ فلو أنصفت وطلبت الحق، لعلمت أن ذلك من البيان، ما يبلغ إلى الغاية القصوى ، في تحصيل المرام، من هذه المسألة ، ولكنك قد اتخذت التقليد دليلا ، على عدم النظر والتأمل في الأمور ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

ثانياً: رد دعوى الألوهية، وإثبات نبوة عيسى عليه السلام من نصوص أناجيلهم.

أخبرني ..متى ادعى عيسى عليه السلام الألوهية تصريحا ؟

أو متى ذكر الأقانيم التي تقولونها توضيحا ؟

ألم تقرأ في إنجيلك الكائن بين يديك عن عيسى ، أنه قال حين خرج من السامرة ولحق بالجليل : أنه لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه([22]) ؟

وفي الإنجيل للوقا : أنه لم يقبل أحد من الأنبياء في وطنه فكيف تقبلونه([23]) ؟

وحسبك هذا من دليل على أنه ما ادعى غير النبوة المعلومة .

وفي الإنجيل لمرقس: أن رجلا أقبل إلى المسيح وقال له : (أيها المعلم الصالح ، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية. فقال له : لماذا تدعوني صالحا؛ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله. ولكن إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا . قال له : أية الوصايا ؟ فقال يسوع : لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور ، أكرم أباك و أمك ) ([24]) .

وفي الإنجيل ليوحنا: أن اليهود لما أرادت القبض عليه وعلم بذلك ، رفع بصره إلى السماء ، وقال : قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك ، واجعل لي سبيلا إلى أن أملك كل ما ملكتني ، الحياة الباقية ، وإنما الحياة الباقية ، أن يؤمنوا بك إلها واحدا ، وبالمسيح الذي بعثت ، وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت ما أمرتني به فشرفني لديك([25]).

وفي الإنجيل: أن عيسى قال لتلاميذه : لا تسبوا أباكم على الأرض؛ فإن أباكم الذي في السماء وحده ، ولا تدعوا معلمين ، فإن معلمكم المسيح وحده([26]) .

فقوله : ولا تسبوا أباكم على الأرض معناه: لا تقولوا أنه على الأرض ، ولكنه في السماء .

ثم أنزل نفسه حيث أنزله الله تعالى وقال : ولا تدعوا معلمين؛ فإن معلمكم المسيح وحده .

فها هو ذا قد سمى نفسه معلما في الأرض لهم ، وشهد أن إلههم في السماء واحد .

وفي الإنجيل للوقا: أن عيسى أحيا الميت بباب مدينة ( نائين ) عندما أشفق لأمه؛ لشدة حزنها عليه فقالوا : إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته([27]).

وفي الإنجيل ليوحنا: أن عيسى قال لليهود : لست أقدر أن أفعل من ذاتي شيئا، لكنني أحكم بما أسمع؛ لأنني لست أنفذ إرادتي ، بل إرادة الذي بعثني([28]) .

وفي الإنجيل ليوحنا: أيضا أنه أعلن صوته في البيت وقال لليهود :

قد عرفتموني في موضعي ، ولم آت من ذاتي ، ولكن بعثني الحق ، وأنتم تجهلونه([29]).

فها هو ذا قد جعل نفسه ، وموضعه معلومين عند اليهود ، وجعل الله عندهم مجهولا ، وقال : إنه لم يأت من ذاته ، ولكن الله قد بعثه ، فما زاد في دعواه شيئا على ما ادعاه غيره من الأنبياء عليهم السلام .

وفي الإنجيل: أنه قال لليهود – بعد حوار طويل  وكلام كثير مذكور بينه وبينهم في ذلك المجلس – حين قالوا له : إنما أبونا إبراهيم . قال : إن كنتم بني إبراهيم فاقفوا أثره ، ولا تريدوا قتلي ، على أني رجل أديت إليكم الحق الذي سمعته من الله. غير أنكم تقفون أثر آبائكم.

قالوا : لسنا أولاد زنا ، إنما نحن أبناء الله ، وأحباؤه .

فقال : لو كان أباكم لحفظتموني؛ لأني رسول منه [ أي من الله ] ([30])؛ خرجت مقبلا ، ولم أقبل من ذاتي ، ولكن هو بعثني ، ولكنكم لا تقبلون وصيتي ، وتعجزون عن سماع كلامي ، إنما أنتم أبناء الشيطان ، وتريدون إتمام شهواته ، إلى كلام كثير ذكر في الإنجيل الذي بأيديكم ، عما كان بينه وبين اليهود في ذلك([31]) .

وفي الإنجيل أيضا : أنه كان يمشي يوما في اسطوان سليمان فأحاطت به اليهود وقالت له : إلى متى تخفي أمرك([32]) ؟ إن كنت المسيح الذي ننتظره ، فأعلمنا بذلك([33]) .

ولم يقولوا : إن كنت الله؛ لأنهم لم يعلموا من دعواه ذلك، ولا اختلاف عند اليهود أن الذي انتظروه هو  إنسان نبي ، ليس بإنسان إله كما تزعمون .

وفي الإنجيل أيضا عنه : أن اليهود أرادوا القبض عليه ، فبعثوا لذلك الأعوان ، وأن الأعوان رجعوا إلى قوادهم . فقالوا : لم لم تأخذوه ؟ فقالوا : ما رأينا آدميا أنصف منه ! فقالت اليهود : وأنتم أيضا مخدوعون؟ أترون أنه آمن به أحد من القواد ، أو من رؤساء أهل الكتاب ؟ إنما آمن به من الجماعات ، من يجهل الكتاب . فقال لهم ( نيقوديموس ) – وهو من كبار القسس- : أترون أن كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه ؟ فقالوا له : اكشف الكتاب ! ترى أنه لا يجيء من الجليل نبي ([34]).

فما قالت اليهود ذلك إلا لأنه أنزل لهم نفسه منزلة نبي فقط ، ولو علمت من دعواه ادعاء الألوهية لقالته يومئذ تقبيحا له وتحريضا على قتله .

وكثير من هذا في الإنجيل يطول ذكره ، ولا محالة أنك إن سمحت نفسك بالانقياد إلى الحق ، وخلعت الهوى ، علمت أن ذلك كذلك .

وفي الذي اتخذتموه دليلا على صلبه من كلام عاموص النبي ، أن الله قال على لسانه :

ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل والرابعة لا أقبلها ، وهي: بيعهم الرجل الصالح . حجة عليكم لا لكم؛ لأنه لم يقل بيعهم إياي ، ولا قال بيعهم إلها متساويا معي، ويجري تأويل قوله هنا على وجهين :

1 – إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون ، فقولوا حينئذ: إنه الرجل الصالح ، أو العبد الصالح كما قال عاموص ، وليس بالإله المعبود .

2 – وإما أن يريد بالمبيع غيره ، وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه([35])؛ ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى عليه السلام.

ثالثاً: إبطال دعوى ألوهية عيسى بدليل عقلي .

ثم كتبتم في الإنجيل الذي بأيديكم : أن الرب صعد ، فصار على يمين الرب في أثر الصلب([36]) .

أخبرني .. عن هذين الربين : من خلق منهما صاحبه ؟

فالمخلوق منهما ضعيف عاجز ، ليس بإله([37]).

وإذا أراد أمرا ، لمن الحكم منهما ؟

فإن كان أحدهما مضطرا إلى مشاورة الآخر ، ومساعدته ، كان المضطر عاجزا مقهورا ، ولم يكن إلها قادرا .

وإن كان قادرا على مخالفته ، ومدافعته ، فهو إذن إله مداهن ، ويكون الآخر ضعيفا ، عاجزا مقدورا عليه .

أما تعلم … أنه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ..} ([38]).

{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}([39]) .

ومن عجيب تناقضكم اتفاقكم على أن التثليث: آب ، وابن، وروح قدس ، وأن كل واحد من هذه الثلاثة لا يبصر ، ولا يلحقه ما يلحق الخليقة، وأن عيسى كان يبصر ، ويجوع ، ويشبع ، ويأكل ، وغير ذلك من صفات الخليقة، ثم جعلتموه الابن من تلك الثلاثة ، ويلحقه ما ليس يلحقها !

فإن قلتم : إن نصفه هو إله تام ، والنصف الآخر ليس بإله ، فيلزمكم – إذا دعوتموه- أن تقولوا: يا نصف المسيح ارحمنا !

وإذا قيل لكم : من إلهكم ؟

فقولوا : هو نصف المسيح !

وكيف يكون نصفه خالقا ، ونصفه معبودا لنصفه ، وليس بإله تام ؟

على أنكم لم تفعلوا شيئا من ذلك ! وكفى دليلا على ذلك قولك في رسالتك :

( لما لم يمكن أن ينتقم الله من عبده آدم لسقوط منزلة العبد ، انتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، وأن الانتصاف إنما كان من الجسم ، فهو المماثل ) .

فإذا جعلتموه كله إلها فأنتم تعبدون غير الله، ولا فرق عندكم بين الله وبين مخلوقاته .

وقلتم :

( إن الابن إله تام ، وأن الآب يستحق من الألوهية والقدم ، ما لا يستحقه الابن ).

فإذا كان ذلك؛ فالابن إذن إله غير تام حيث لا يستحق من الألوهية مثل ما يستحقه الأب . وهذا من مكابرتكم العقول .

وقالت اليعقوبية([40])، وهي من فرق ملتكم :

إن الله نزل فدخل في بطن مريم ، واتخذ من لحمها جسدا؛ فصار الله مع الجسد نفسا واحدة .

وقالت النسطورية([41]) :

ليست النفس هي الله ، وإنما هي بعضه.

ومن كلام اليعقوبية : إن الله أخذ ذلك اللحم ، والدم فوردهما في نفسه فصار ذلك اللحم الله .

ثم اتفقتم أن أقانيم الآب ، والابن ، والروح القدس غير مختلفة ، بل هي أقنوم واحد .

فإذا كان هذا ، الأب هو الابن ، وهما روح القدس ، الكل شيء واحد ، وهذا توحيد . فلِم خصصتم المسيح بالابن ، ولم تقولوا: إنه الأب . وقد قلتم : إن الأب ، والابن  والروح القدس شيء واحد ؟

ثم جعلتم جوهر البدن شيئا معبودا وليس من الثلاثة ، فهؤلاء إذن أربعة ، وقد بطل التثليث ، وصار تربيعا .

فإن أبيتم إلا ثلاثا؛ فقد جعلتم نفي العبد وإثباته سواء ، وكابرتم العقول .

v  قال القسيس حنا :

في الكتاب ، الذي جاء به صاحب شريعتك ، أنه أحيا الموتى([42]) وكفى بذلك دليلا على أنه هو الله .

ثم إنه أيد بإحياء الموتى بعض الحواريين([43]) . فأحيوا الموتى . كمثل ما فعل المسيح .

وأرسلهم المسيح إلى جميع الأجناس([44]) . وأمرهم بإفشاء أمره . بعد أن كان يشرح لهم شرائعه بنفسه ، ورآه الناس بأعينهم . وهو يتواضع . فوجب عليهم أن يفعلوا كما رأوا خالقهم يفعل .

v  رد أبي عبيدة الخزرجي :

جعلت حجة على إجلال منزلة عيسى عن آدم ، والاعتلاء به إلى منزلة الألوهية ، أنه أحيا ميتا ، ولم ترد أن يكون الله تعالى قد جعل له ذلك برهانا على نبوته . ودلالة على صدق رسالته . ثم لم تلبث أن أوجبت ما نفيت ، وأقررت بما أنكرت ، وكنت كالقائم القاعد في الحال الواحد، وذلك حين قلت :

إن عيسى في حال الألوهية التي تصفونه بها ، قد أيد نفرا من الحواريين بإحياء الموتى – بزعمكم – ، وجعلهم رسلا إلى الأجناس ، فأحيوا الموتى بزعمك .

فما الذي أوجب أن يكون المسيح في حال الألوهية ، قد أيد بذلك بشرا وجعله رسولا إلى الأجناس ، ومنع أن يكون الله عز وجل يؤيد بشرا ، ويجعله رسولا إلى الناس ؟!

فإن كان المسيح من أجل إحياء ميت هو الله؛ فكل من أحيا ميتا بزعمك فهو الله([45])! .

وبإجماع من جميع الملل الثلاثة: أن إلياس النبي أحيا الموتى ، وكذلك اليسع([46]). فلِمَ تظلمون بعضا دون بعض ؟

v  قال القسيس حنا :

إنه عز وجل ، لما كلم العالم على ألسنة أنبيائه ، الذين جعلهم رسله ووسائطه إلى خلقه ، ليعلموهم الإقرار بربوبيته ولينهوهم عن عبادة الأوثان والأصنام الفاشية ضلالتها في جميع الأرض ، ولم يمتثلوا لهم ، نزل هو سبحانه ، بعد ذلك من السماء ، ليكلم الناس بذاته ، لئلا تكون لهم حجة عليه ، فتنقطع حجتهم حينئذ ، من أجل أن كلمهم بذاته ، لا بواسطة بينهم وبينه ، فارتفعت المعاذير عمن ضيع عهده ، بعد ما كلمه بذاته ، إتماما لرحمته على الناس . فهبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم العذراء([47]) البتول([48]). أم النور فاتخذ ( لنفسه ) منها حجابا كما سبق في حكمته الأزلية ، لأنه في البدء كانت الكلمة ، والكلمة هو الله([49]) ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس هو خلق جسمه ، وهو خلق أمه ، وأمه كانت من قبله في الناسوت وهو كان من قبلها في اللاهوت ، وهو الإله التام ، وهو الإنسان التام([50]).

v  رد أبي عبيدة الخزرجي :

قلتَ : إن الله عز وجل لما كلم العالم على ألسنة أنبيائه ، الذين جعلهم رسله ، ووسطائه إلى خلقه ، ليعلموهم الإقرار بربوبيته ، وشرعوا لهم ترك أوثانهم ، وأصنامهم . الفاشية ضلالتها في جميع الأرض فلم يذعنوا؛ فنزل هو تعالى بعد ذلك من السماء ، ليكلم الخلق بذاته ، لئلا تكون لهم حجة عليه ، فتنقطع حجتهم بأن كلمهم بذاته ، لا بواسطة . فارتفعت المعاذير عمن ضيع عهده بعد أن كلمه بذاته .

أخبرني ..ما الذي أوجب ذلك ؟

هل كان علمه لم يحط بما فعل أنبياؤه ، حتى هبط ليطلع على فعلهم ؟

أو هل كانت أنبياؤه متهمة عنده لمخالفة أمره ؟

أو هل كانت الأنبياء لم تقو على بيان ما جاءت به من الإيمان بالله ، وعجزت عن إظهاره في العالم ، وضعفت عن إظهار المعجزات العجيبة الدالة على صدقهم ، حتى هبط هو ففعل ما لم يفعله من أرسل من قبله ؟

فلقد قصصتم في الإنجيل الذي بأيديكم : أن اليهود كانت تطالبه بمثل معجزات موسى بن عمران ، فلا يجيبهم بشيء ، وسأذكر ذلك ، وبعض مواضعه من الإنجيل إن شاء الله عز وجل .

أخبرني ..ما الذي أظهره دليلا على أنه هو الله حتى تنقطع حجة العالم به دون غيره كما زعمت ؟

وما الذي رأوا من العظمة التي لم يكونوا رأوها حتى ترتفع المعاذير ؟ لأجل أن رأوا يديه ورجليه مكتوفة ! – كما تظن من غير يقين – ، مصفوعا في قفاه ، مبصوقا في وجهه بتاج من الشوك على رأسه([51]) مصلوبا على جذع مسمرة يداه ورجلاه فيه .

وعجبا لتمويهكم أيضا ، باختلافكم في خشبة صلبه . فمن قائل: كانت من السرو ،

ومن قائل : كانت من الأرز ،

ومن قائل : كانت أطروشا من قنبيط !!

وقلتم : إن الخشبة قطعت وحملت على عنق الله تبارك وتعالى إذلالا له ، أو تبكيتا ، وصلب عليها

تشنعون بذلك خطيئة اليهود ، لتضرموا قلوب عوامكم ضغنا عليهم .

ولقد وجب  تنقيص تلك الألوهية بما لا يخفى على أحد ولو كان صبيا.

لا جرم أنه لو سبق في حكم الله ، أن يباشر خلقه ، مثل المباشرة التي ذكرتها ، لأنبأت بذلك التوراة ، والأنبياء تصريحا ، لا كناية وألغازا .

ولجل ذلك عن الأفكار ، ولعلم في الأوهام ، وانتظرته الأمم بأشد أسباب الانتظار .

ولقد تأولتم في التوراة ، وفي بعض النبوات لإثبات التثليث بما يخرج عن منهج الحق ، ويبعد عن الصدق – ويوجد تأويل من قبلكم لها ، وهو أهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وأوضح دليلا – مثلا -كما تأولتم في الملائكة الثلاثة الذين أتوا بالبشارة إلى إبراهيم تحت العفصة ، فقام إليهم ، وبجلهم ، وخاطبهم خطاب رجل واحد على ما ذكر في توراة اليهود([52]) .

جعلتم ذلك دليلكم على التثليث . إلى غير ذلك من التأويلات التي هي رمد في عين الإيمان ، وشجى في صدر كل ناطق ، إنسان .

ثم احتال بعضكم لذلك الكفر البشيع ، والجهل الشنيع في وجوه من العذر التي هي أقبح من الذنب ، كالشمس ثلاثة أشياء : جرم ، ونور ، وحرارة تشبيها بالتثليث .

وكالحديدة يحميها الحداد ، ثم يمدها ، فليمد ما شاء ، فإنه ليس يمد النار وإنما يمد جسم الحديد . تشبيها بالله عز وجل ، حين صلب بظنكم .

وإنما استدركتم العذر بهذه الأقوال الوخيمة ، لتوهموا جهلاءكم أن لتلك البشائع التي تعتقدونها ، وتنطق بها ألسنتكم أسرارا وأصولا ثابتة في الحقائق حين ينظرون إلى من سواهم من أهل الملل ، يعبدون الله وحده ، ولا يشركون به شيئا ، وإن اختلفوا فيما سوى ذلك .

وقد دعا سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أربابكم إلى المباهلة حين أنزل الله عليه :

{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}([53]).

فجزعوا لذلك ، وأبوا عليه ، فأوعدهم عليه الصلاة والسلام لو باهلوا باضطرام ذلك الوادي نارا عليهم ، فتخوفوا نقمة الله تعالى حين يظهر كرامته عليهم وجاهه لديه ، وإلا فلم لم يجيبوه حينئذ ويتباهلوا ، ولا يحترقون كما أوعدهم فيكون في ذلك عليه ما لا يخفى([54]).

وإذا تأملتم بعين الإنصاف الإنجيل الذي بأيديكم ، فإنكم تجدون فيه نصا على ما قدمت من الدلائل على براءة عيسى مما نسبتموه إليه من ادعاء الألوهية لنفسه :

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ .. ) ([55]) .

غير أن من ضل بعده إلى مدة من نحو ثلاثمائة سنة كانوا مهرة في استدراك الأكاذيب ، وتقفية الإنجيل بها ، فادعوا أنه يكلمهم في سحاب السماء ، وفي أضغاث الأحلام ، وشدوا أزر ذلك بأن نصوا في الإنجيل :

أن الإيمان بعيسى لم يتم إلا بعده.

ليجعلوا ما جاءوا به من الكذب تماما لإيمانهم .

وأصل هذا النص أن عيسى قال لأصحابه :

أن الإيمان به لا يتم إلا بالذي بعده ، وأكد ذلك في مواضع كثيرة صرح فيها بسيد النبيين والمرسلين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم . سأذكر منها ما تأتى لي ذكره في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى .

ولما هموا بالتحريف بعد مدة من وفاة الحواريين رضي الله عنهم ، وكرهوا ما ندبهم إليه عيسى عليه السلام، وأمرهم به فانحرفوا عنه بتأويلات وخيمة اخترعوها ، وإلى شرائع مضلات شرعوها .

وختاما:

فعلى كثرة اختلاف أقوالكم في المسيح ، وتنازعكم ، فكلكم يقول :

– إنه إنسان تام ، حمل به تسعة أشهر ، وولد ، وختن ، وأرضع ، وكان صغيرا فكبر ، وناقصا فزاد ، ونما ، ومشى ، وأكل ، وجاع ، وشبع ، وعطش ، وغاط ، وبال، ونام .

وطلب فهرب ، وأخذ فربط ، وصلب ، ودفن .

وأنه أتى شجرة من التين ، فلم يجد فيها ما يأكله فدعا عليها[56]) .

– ولم يدر أيضا مكان قبر صديقه ( لعازر ).

وقال : أين دفنتموه[57]) ؟ .

– ولم يعلم ، متى تقوم الساعة !

– ولا قدر أن يجعل أولاد زبدى عن يمينه وشماله ،

وترك ذلك إلى الله إن شاء فعله ! [58]) .

وقلتم :

– إن يحيى غطسه .

– وإنه صاح عند الموت جزعا منه !

وهذه كلها صفات إنسان مهين ، لا إله قوي متين .

ونحن نسأل الله سبحانه أن يكشف ما بكم من بشع الضلالة ، ويتلقاكم بالهداية ، فهو فعال لما يريد .

وصلوات الله وسلامه على نبيه المصطفى ، ورسوله المرتضى ،محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وعلى آله الطاهرين ، وأزواجه أمهات المؤمنين ، وصحابته الأبرار ، من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

وإلى لقاء بمشيئة الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد مع الحلقة الثانية، ومحورها: ( دعوى صلب المسيح عليه السلام ).

إعداد : متعب الحارثي .


[1]– مناظرة: جاء هذا الاسم للقسيس في النسخة المطبوعة بمصر؛ فاستحسنت إيراده هنا، رغم أن الدكتور محمد شامة لم يرجح هذا الاسم، ولم يذكره  في  نصه المحقق، بل أشار إليه في تعليقه في الحاشية. 

[2]– اقرأ رأي المسيحيين في حادث الصلب في متى : 27 ، مرقس : 15 ، لوقا : 23 ، ويوحنا 19 . ثم قارن معارضة القرآن لهذا الرأي في قوله تعالى في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}. ثم ارجع إلى مناقشة ابن حزم لعقيدة المسيحيين في صلب عيسى عليه السلام : الفصل في الملل والنحل ج 1 ص 46 – 51 . 

[3]– لو قارنا بين نص التوراة ، في سفر التكوين ، الإصحاح الثالث ، وبين ما أشار إليه القرآن الكريم ( البقرة : 36 ، الأعراف : 20 ، طه : 120 ) في تحديد مرتكب الخطيئة الأولى ، لوجدنا أن التوراة تحمل حواء مسئولية هذه الخطيئة ، فقد جاء في سفر التكوين أن حواء : ( أكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل … فقال آدم : المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت ) . { التكوين 3 : 6 – 12 } .

أما القرآن الكريم ، فينسب الخطيئة إليهما معا ، فهما متضامنان في تحمل المسئولية ، اقرأ قوله تعالى في سورة البقرة:{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ .. (36)} . بل نصت آية طه ، على أن الشيطان وسوس إلى آدم فقط فيقول تبارك وتعالى :{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)}. ولا شك أن تبرئة القرآن المرأة ، على هذا النحو ، يرفع عنها لعنة ، لحقتها عبر القرون ، ويرفع عنها سبة الضعف المطلق ، والانهيار السريع أمام الغواية ، ولا يخفى أثر هذا الاتجاه على وضعها في المجتمع .  

[4]– يرفض القرآن الكريم أن تنسحب خطيئة آدم وحواء على كل الناس كما يعتقد علماء اللاهوت  المسيحيون؛ فالمسئولية الدينية في نظر القرآن الكريم شخصية محضة ، أنزل الله ذلك في آيات عدة ، نذكر منها على سبيل المثال : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . { البقرة : 286 } . { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} .{ النساء :111 } . {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} { الإسراء : 15 } . بل أن القرآن ليصور لنا البريء بالمذنب ، لا على أنه مضاد للشريعة فحسب ، بل هو كذلك غير متوافق مع الفكرة الأساسية للعدالة الإنسانية : {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} { يوسف : 79 } .  

[5]– مناظرة: توراة اليهود تدل على بطلان هذا القول؛ ففي سفر التثنية 24:16ما نصه: ( لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء. كل إنسان بخطيته يقتل )، ولأن الإنجيل نص على تحمل كل إنسان نتيجة عمله ، ففي إنجيل متى 5:44-45 ، يقول عيسى عليه السلام : ( وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم؛ لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات؛ فإنه يشرق شمسه على الأبرار والصالحين، ويمطر على الأشرار الظالمين). انظر البشارة بنبي الإسلام لأحمد حجازي 2/38.  

[6]– أصل كلمة أقنوم تدل على: شخص.  

[7]– يشير إلى قوله تعالى في سورة النساء: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}.  

[8]– يشير إلى قوله تعالى في سورة آل عمران : { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}.  

[9]– قال تعالى في سورة البقرة:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ .. (285)}.  

[10]– قال تعالى في سورة الجن:{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}.  

[11]– قال تعالى في سورة الجمعة: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}، وقال سبحانه في سورة الأعراف:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}.  

[12]– ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).( المائدة : 19 )  

[13]– سورة البقرة : 130 .  

[14]– سورة آل عمران : 67 .  

[15]– سورة آل عمران : 19 . 

[16]– سورة آل عمران : 85 .  

[17]– سورة آل عمران : 7 .  

[18]– مناظرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ: أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِد” رواه البخاري ومسلم. قال العلماء: أولاد العلات بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الإخوة لأب من أمهات شتى، وأما الإخوة من الأبوين فيقال لهم أولاد الأعيان.قال جمهور العلماء: معنى الحديث أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة؛ فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف.انظر شرح صحيح مسلم15/120.  

[19]– سورة النساء : 172 .  

[20] سورة المائدة : 116 ، 117 .  

[21](( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ..)) . ( المائدة : 75 ) .  

[22] (( وبعد اليومين خرج من هناك ومضى إلى الجليل لأن يسوع نفسه شهد أن ليس لنبي كرامة في وطنه )).( يوحنا 4:43-44).  

[23]– (( فقال لهم : على كل حال تقولون لي هذا المثل أيها الطبيب اشف نفسك . كم سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم فأفعل ذلك هنا أيضا في وطنك ، وقال : الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولا في وطنه )) . ( لوقا 4 : 23 – 24 ) .  

[24]– متى 19 : 16 – 19 أما ما جاء في إنجيل مرقس كما أشار المؤلف بهذا الصدد فهو كما يلي : (( وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ، فقال له يسوع : لماذا تدعوني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله . أنت تعرف الوصايا ، لا تزن ، لا تقتل ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور ، لا تسلب ، أكرم أباك وأمك )) . ( مرقس 10 : 17 – 19 ) .  

[25]– قارن يوحنا : الإصحاح السابع عشر .  

[26]ورد النص في إنجيل متى هكذا : (( ولا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات . ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد المسيح )) . ( متى 23 : 9 – 10 ) .  

[27]– (( … فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين : قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه )) . ( لوقا 7 : 16 ) .  

[28] ونص إنجيل يوحنا : (( أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي ، بل مشيئة الآب الذي أرسلني )) . ( يوحنا 5 : 30 ) .  

[29] يشير إلى قول إنجيل يوحنا : (( فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلا : تعرفونني وتعرفون من أين أنا ومن نفسي لم آت بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه )) . ( يوحنا 7 : 28 ) .  

[30]– زدنا ما بين القوسين لأن النص يقول : (( لأني خرجت من قبل الله وأتيت . لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني )) . ( يوحنا 8 : 42 ) .  

[31]– قارن يوحنا الإصحاح الثامن .  

[32]– نص إنجيل يوحنا : (( إلى متى تعلق أنفسنا )) . ( يوحنا 10 : 24 ) .  

[33]– راجع يوحنا 10 : 25 .  

[34]– قارن يوحنا 7 : 45 – 52 .  

[35]– يساق هذا دليلا على عدم صلب المسيح عليه السلام .

[36]– انظر مرقس 16 : 19 .  

[37]– سورة الأنبياء : 22 .  

[38]– سورة الأنبياء : 22 .  

[39]– مناظرة: يقول الله تعالى في سورة يونس:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} في هذه الآية الكريمة ينزه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد بقوله: { سُبْحَانَهُ } أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا، ثم برهن على ذلك، بعدة براهين: أحدها: قوله: { هُوَ الْغَنِيُّ } أي: الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد؟ ألحاجة منه إلى الولد، فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.

البرهان الثاني: قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض، الجميع مخلوقون عبيد مماليك. ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا. فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.

البرهان الثالث: قوله: { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي: هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا، فلو كان لهم دليل لأبدوه، فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه. وأن ذلك قول بلا علم، ولهذا قال: { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } فإن هذا من أعظم المحرمات.انظر تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبدالرحمن السعدي.

[40]– هم أتباع يعقوب البراذعي ، توفي عام 578 م .  

[41]– أتباع نسطور الحكيم المتوفى عام 451 م .(( قالوا : إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة : الوجود ، والعلم ، والحياة ، وهذه الأقانيم ليست زائدة ولا هي هو))؛ فتأثرهم بالفلسفة الإغريقية في شرحهم النصوص الدينية دفعهم إلى أن يؤولوا التثليث تأويلا عقليا ، فرأوا أن التصديق بالثلاث عبارات ليس قولا بالتثليث في الواقع ونفس الأمر لأن مدلولاتها ترجع في الحقيقة إلى شيء واحد . هو (( الوجود )) . فالوجود هو الجوهر ، وهو الذات الواحدة في الواقع و (( العلم )) ، و (( الحياة )) صفتان ، أو اعتباران له ، وبهذا لا يوجد كثرة حقيقية فيه . وعلى هذا : فالله وكلمة الله ، وروح القدس ، تلك العبارات التي وردت في النص المسيحي لا تدل على ذوات ثلاث في واقع الأمر ، بل الله هو الذات الواحدة ، وهو وحده أصل العالم ، وكلمته على معنى علمه والروح القدس على معنى القوة المدبرة ، حالان أو اعتباران لذاته . (( والنساطرة بهذا التأويل عدوا من أصحاب مذهب (( الوحدة )) أو يمكن أن يعدوا من أصحابها . ولذلك اعتبرتهم الكنيسة البيزنطية وهي كنيسة الشرق الأدنى خارجين عن الجماعة المسيحية المؤمنة ، كما اعتبرتهم زنادقة هذه الجماعة ، وهو من أجل ذلك يستحقون في نظرها لعنة الرب والمسيح )) . ( البهي : الجانب الإلهي جـ 1 ص 120 – 121 ) وذلك في مؤتمر خلقيدون الذي انعقد في عام 450 م .  

[42]– يشير إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}.  

[43]– ورد في إنجيل النصارى فقرات متعددة ، تشير إلى أن عيسى عليه السلام ، أمر حوارييه أن يقوموا بأفعال خارقة ، كتلك التي أظهرها الله على يديه تأييدا له وإظهارا لمن أنكر بعثته ، وجحد أنه مؤيد من الله : (( وقال لهم : اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها . من آمن واعتمد خلص . ومن لم يؤمن يدن . وهذه الآيات تتبع المؤمنين . يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة . يحملون حيات وان شربوا شيئا مميتا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون )) ( مرقس 16 : 15 – 18 ) . (( ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء )) . ( لوقا 10 : 19 ). ويبدو من هذه النصوص ، أن عيسى عليه السلام ، لم يشر إلى أنهم يستطيعون إحياء الموتى ، بل أن إيمانهم يعطيهم قوة خارقة ، للسيطرة على الشياطين ، وفي سحق العقارب وهزيمة الأعداء ، وقد يكون ذلك مجازا لما يستطيع المؤمن القيام به ، نتيجة زيادة الدفع الإيماني ، الذي يكمن بين جنباته . غير أن هناك نصا في الإنجيل يشير إلى أن عيسى أرسل حوارييه الإثنى عشر ، وأمرهم – فيما أمرهم به – بإحياء الموتى : (( هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا : إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى إلى حراف بيت إسرائيل الضالة . وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات . اشفوا مرضى . طهروا برصا . أقيموا موتى . أخرجوا شياطين )) ( متى 10 : 5 – 8 ) . فقوله : (( أقيموا موتى )) يحتمل أن يكون تعبيرا مجازيا على حد قوله تعالى : ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا .. )) . { الأنعام : 122 } . إذن ، ليس هناك في الأناجيل الأربعة ، نص يدل صراحة ، على أن الحواريين أحيوا الموتى ، ولكن جاء في أعمال الرسل : (( .. فقام بطرس وجاء معهما . فلما وصل صعدوا به إلى العلية فوقفت لديه جميع الأرامل يبكين ويرين أقمصة وثيابا مما كانت تعمل غزالة وهي معهن فأخرج بطرس الجميع خارجا وجثا على ركبتيه وصلى ثم إلتفت إلى الجسد وقال يا طبيثا قومي . ففتحت عينيها ، ولما أبصرت بطرس جلست . فناولها يده وأقامها . ثم نادى القديسين والأرامل وأحضرها حية )) ( أعمال الرسل 9 : 39 – 41 ) . ولا يخفى على القارئ أن أعمال الرسل ، تأتي في مرتبة تلي مرتبة الأناجيل ، فهي ليست وحيا – يتفق في ذلك علماء المسيحية – بل تعبيرا عن رأي كاتبها ولم يتفق علماء العقائد المسيحية ، على حجيتها في التشريع . ( راجع هذا الموضوع عند ابن حزم : الفصل ج 2 ص 22 ) .  

[44]– جاء في إنجيل متى : (( … فتقدم يسوع وكلمهم قائلا : دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض . فأذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 18 – 19 ) . وفي إنجيل مرقس : (( … وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل  للخليقة كلها )) ( مرقس 16 : 15 ) . وفي إنجيل لوقا : (( … وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث . وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم )) ( لوقا 24 : 46 – 47 ) .  

[45]– مناظرة : قال الإمام ابن قيم الجوزية يخاطب النصارى: وإن قلتم : استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى ، ولا يحييهم إلا الله ، فاجعلوا موسى إلها آخر ، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه ، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا .انظر كتاب هداية الحيارى ص200.  

[46]– تحدث القرآن الكريم عن إلياس مرتين : ( أ ) ((وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)) . ( الأنعام : 85 ) . ( ب ) ((وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) )) . ( الصافات : 123 – 132 )، وليس فيهما ما يدل على أنه أحيا الموتى . كذلك لم يذكر مؤلفو قصص الأنبياء شيئا من ذلك ، باستثناء الثعالبي الذي ذكر أن إلياس أحيا ميتا بعد موته بأربعة عشر يوما ( انظر : ابن كثير جـ 2 ص 241 – 247 ، الثعالبي ص 228 )، وهو من الإسرائيليات التي نقلها الثعالبي من سفر الملوك الأول إصحاح 17.

أما اليسع فقد ذكره القرآن الكريم في موضعين : ( أ ) ((وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86))) . ( الأنعام : 86 ) . ( ب ) ((وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48))) . ( سورة ص : 48 ) . دون أن يبين أن الله أظهر على يديه معجزة إحياء الموتى . كذلك لم أعثر في قصص الأنبياء على ما يؤيد رأي أبي عبيدة ، إلا أن العهد القديم ذكر أن اليسع أحيا صبيا مات بعد إصابته بدوار في رأسه ( الملوك الثاني 4:16-37)ويبدو أن أبا عبيدة تأثر بذلك – وهي ظاهرة ابتلي بها كثير من علماء المسلمين – فسلم بأن إلياس واليسع أعادا الحياة للموتى ، ونسي أن القرآن الكريم لم يخبر أن الله أيد نبيا غير عيسى عليه السلام بمعجزة إحياء الموتى . وعليه فيكون قوله : (( وبإجماع من جميع الملل … الخ )) قولا خاطئا .  

[47]– المراد بعذرية مريم : طهارتها وعفتها ،كما قال القرآن الكريم على لسانها : { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)} . ( سورة مريم ) . 

[48]– البتول من النساء : المنقطعة عن الرجال ، لا أرب لها فيهم ، وبها سميت مريم أم المسيح . والتبتل : ترك النكاح ، والزهد فيه ، والانقطاع عنه .  

[49]– مناظرة:  قال الله تعالى في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}، والمراد: أن الله خلقه بكلمته ( كن ) لا أنه هو الكلمة؛ لقوله ألقاها إلى مريم ولم يقل ألقاه، ويدل عليه قوله تعالى في سورة آل عمران:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}.انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري13/498.  

[50]– مناظرة: إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه؛ فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه؛ إذ كان قديما مثله، وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها:(إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده وأنه نزل لخلاصكم)، ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا؛ فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة، وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول ولد من أبيه، وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه، فصار الأب باعثا والابن مبعوثا، والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا .

ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح: أن متى التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال: (  كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم )؛ فنسبه إلى من كان منه على الصحة، ولم يقل إنه ابن الله، ولا إنه إله من إله كما يقولون؛ فإن قلتم: إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية، فقد نسق متى على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت، فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا.انظر:  قصة إسلام الحسن بن أيوب ( توفي سنة 378هـ) ، والذي كان من أجلاء علماء النصارى في كتاب :( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/88-189).

ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها: إنه ابن داود. على ما ثبت من ذلك في الإنجيل .

 [51]– قارن إنجيل يوحنا 19 : 1 – 5 . 

[52]– انظر سفر التكوين 18 : 1 – 22 .  

[53]– سورة آل عمران : 59 – 61 .  

[54]– انظر البخاري جـ 5 ص 217 وابن كثير : السيرة النبوية جـ 4 ص 100 – 108 .

[55]– سورة آل عمران : 79 .

[56]متى 21 : 18 – 19 ، ومرقس 11 : 13 – 14 .

[57]يوحنا 11 : 34 .

[58]متى 20 : 2 – 23 .

مع تحيات ابو جاسم محمد عندالله الانصاري

مدير بوابة الانصار العالمية

اضف رد